عندما تقرأ أو تسمع عن صبر من ابتلوا ببلاء.. قد لا تستوعب أو تدرك هذا الأمر على حقيقته، ولكن عندما تعايش أحداً ممن ابتلوا فصبروا واحتسبوا فإنك تُصاب بذهول وتعجب وتدرك أن هؤلاء الصابرين يضربون أروع الأمثلة في الصبر والاحتساب.
نحن نرى بعضاً ممن ابتلوا بأمراض ونحوها يظهر عليهم آثار ذلك من الضعف والاستسلام والوهم والقعود.. ومنهم من يُظهر الشكوى والتوجع وهذا أمر مألوف.
لكن عندما ترى هذا المُبتلى الذي ألمَّ به مرض وكلها من المرض العضال يزاول حياته وزياراته ويمارس هواياته ولا يعطي الحديث عن مرضه أي مساحة.. فإنك تقف أمام هذا النموذج موقف الإكبار والتقدير والإجلال.. تقف أمامه مقتدياً.. ومهنئاً له على هذه النعمة التي لا تُقدر بثمن.. ولا تُؤخذ غلاباً وتجزم أنه يستمد ذلك بتوفيق من الله ورحمة.
هذه الأسطر السابقة أردتها مقدمة عن حياة رجل من الطراز الفريد.. وأنا عندما أسطر هذه السطور لم يكن الباعث لها تأثُّر عاطفي أو مجاراة لمقال سابق، بل هي الحقيقة وأقل من الحقيقة.. إنه أخي وصديقي تركي بن عبد الله بن ماضي الذي عايشته وشاركته في حياته ومشاعره.
فهو مدرسة نموذجية في تعليم الصبر والاحتساب، فقد رافقه المرض منذ شبابه.. وكان أبو عبد الله نِعم الرفيق لرفيقه - المرض - فلم يعترض على حلوله.. ولم يسخط لطول مكثه.. ولم يشك لأحد شدة إلمامه، بل كان صابراً محتسباً لله.. شاكراً على قضائه.
لو تعلم أخي القارئ ماذا ألمَّ به لأدركت بعض الحقيقة.. ألمَّ به فشل كلوي رافقه غسيل للدم، ثم قام بزراعة الكلية التي تبرعت بها والدته الحنون - جزاها الله خيراً - إلا أنه لم يُكتب لها النجاح.. ثم واصل الغسيل حتى أخذ منه كل مأخذ فضعفت حاله ونشف جلده وهزل جسمه، فلما تعب المرض وأبو عبد الله ثابت كالجبل الأشم.. جاء مرض ثانٍ في العظام فاجتمعا عليه.. فظن محبو أبي عبد الله أنه سينهار فأصبحت عظامه ضعيفة هشة مما اضطر الأطباء إلى تعويض بعضها وكان -رحمه الله- يتعامل مع المرض وكأنه هو الطبيب واستمر على ثباته وصبره حتى أدرك المرضان أنهما أمام جبل راسخ فحلَّ ضيف ثالث.. وهو مرض التهاب الرئة.
ولكن أبا عبد الله قال لي كلمته التي لن أنساها: (دواه نلبس الفروة).. وهذا في موسم الشتاء.. واستمر أبو عبد الله مع أضيافه - الأمراض - الذين لا يفارقونه ولا يتضجر من طول إقامتهم.
هذا الرجل الذي ألمَّ به هذا المرض.. أتدري كيف يقضي برنامجه اليومي؟
اعلم أنك ستقول لي أنك تبالغ وتزيد، فو الله الذي لا إله إلا هو إنها الحقيقة، بل أقل من الحقيقة، فبرنامجه اليومي كالتالي:
أولاً: الصلوات: يعرف أهل المسجد أن أبا عبد الله هو من السبّاقين للمسجد، بل هو الذي يؤذن للصلاة في حال تأخر المؤذن.
وصلاة الجمعة لا يمكن لأحد أن يسبقه في الحضور، فمهما بكرت بالحضور تجد أبا عبد الله قد سبقك.
ولديه ترتيبات، فإذا دخل المسجد حوَّل هاتفه النقال على الصامت ومعه مصحفه فأخرجه من جيبه بعد أداء ما تيسر له من صلاة النافلة ثم بدأ بالقراءة.
ثانياً: علاقاته الاجتماعية.. لا ينقطع عن محبيه يزورهم ويدعوهم لزيارته في منزله وكنا نشفق من تلبية دعوته حتى لا نشق عليه في إحضار القهوة.. وما يعده لأضيافه وصرحنا له بذلك فقال - عليه رحمة الله - ونحن عنده في منزله: سأريكم حلاً لما أبديتم، فأدخل علينا طاولة على عجلات من عدة أدوار تحمل القهوة والشاي والمعجنات والمكسرات والتمر ثم قال: قولوا لي هل عليَّ مشقة؟
وكان رحمه الله يطلب منا أن يأخذنا في رحلة برية فنشفق عليه فيصر فنضطر لتلبية رغبته فنتفاجأ بأنه صاحب الرحلات والنشاط والعزيمة والتدبير.. فأقول الأولى أن نكون نحن الذين نسعى للترفيه عنه فيكون هو الذي يرفه عنا ويؤانسنا.
ثالثاً: بره بوالديه فالاحترام والتقدير الذي يتحلى به أبو عبد الله لوالديه لا يخفى على أحد، بل كان من ورعه أنه سألني عن مسألة هل هي من العقوق قلت ما هي؟ قال: إن والدتي - جزاها الله خيراً - تحرص على خدمتي فقرَّبت لي حذائي.. فرأيت أني أخطأت في حقها بأن جعلتها تحمل حذائي فرفضت أن تقرّبه.. فهل هذا عقوق.. أو عليَّ فيه إثم؟
قلت: يا أبا عبد الله إن والدتك تستمتع بخدمتك وتتلذذ بذلك فلا تحرمها هذه المتعة وهذه اللذة.
رابعاً: ممارسته لهواياته.. على شدة مرضه وأثره على جسمه إلا أن أبا عبد الله يمارس هواياته وبخاصة الصيد.. فحبه للصيد قد بلغ منه مبلغاً كبيراً، فيبدأ برنامجه من بعد صلاة الفجر مباشرة ويعود إلى داره بعد صلاة العشاء.. وكأنه ليس فيه مرض وضعف بدن.
ولا تنس أنه يشق عليه بذل الجهد في الصيد وشرب الماء المترتب على ذلك وعندما قُرر له عملية لاستبدال عظمة الورك طلب من الطبيب أن يعمل عملية لرجل وتأجيل الأخرى.. لماذا؟ لأنه مقبل موسم الصيد.
وهو في المستشفى منوم.. إذا جاءه محبوه سألهم: (أحد شاف طيور) من شدة حبه لهواية الصيد.
خامساً: التربية والتعليم.. أبو عبد الله مربٍ ومعلم فريد.. إنه لا يملك مبنى مدرسياً، بل إنه بذاته مدرسة، فهو يضرب أروع الأمثلة للمسلم الصابر، فإذا دخل المستشفى.. فوجد أحداً يتضجر أو يصيح أخذ ينصحه ويعظه ويذكره بالصبر والاحتساب.. وإن الضجر لا يدفع ألماً ولا يجلب أجراً، بل يحمّلك إثماً وحرماناً، فكان المرضى إذا رأوه خفّ عنهم ما يجدون من مرض وألم.يقول أحدهم: إذا رأيت أبا عبد الله وما فيه من الأمراض.. ونحن ليس فينا من الأمراض ما فيه.. وهو مع ذلك لا يتضجر ولا يتألم دفعنا ذلك للصبر والاحتساب.
نعم.. لقد عايشته سنين عديدة لم يشتك أو يتوجع.. وإن تحدث عن مرضه فعلى وجه شرح طبيعة المرض والأدوية المستعملة له.
الله أكبر ما هذه العزيمة وهذا التحمُّل.
نجزم إنه صبر مستمد من الله وعونه لعبده.
سادساً: قيامه بأموره وعدم تحميل الآخرين.. كان رحمه الله يقوم بشؤونه بنفسه ولا يكلف أحداً بشيء من ذلك مع حالته الصحية التي تدعو لذلك.. ولا أدل على ذلك أنه يقوم بعملية الغسيل الكلوي في مستشفى الملك خالد الجامعي بالرياض الذي يبعد عن مسكنه ما يقارب مائة وثمانين كيلاً (180 كلم) ومعلوم أن الإنسان بعد الغسيل يُصاب بإرهاق وخمول فكان يذهب بسيارته بنفسه ورفض أن يرافقه سائق وعرض عليه محبوه مرافقته فأبى وقال: المشوار قصير لا يحتاج لذلك خشية أن يشق عليهم ومن مبدأ تحمُّل مسؤولياته بنفسه.
أخي القارئ.. هذا هو أبو عبد الله الذي كان ممن ابتلي فصبر، فتعال وانظر له في آخر حياته.. يقول أبو عبد الله: اللهم لك الحمد.. ولك الشكر على نعمك.
رزقني زوجة ومسكناً ومالاً وكل ما أحتاج، فلك يا رب الحمد ولك الشكر.
نعم كان - رحمه الله - شاكراً بقلبه ولسانه وجوارحه.. نحسبه كذلك والله حسيبه، بل كان في أيامه الأخيرة يسأل عن الصلاة أي وقت نحن؟ فإذا قيل له: نحن الظهر مثلاً كبَّر مباشرة يصلي وهو في حالة مرضية حرجة.. عندها سألت الله أن يجعله ممن فاز بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد).
وعندما رأيت حب إخوانه له في الله ولله.. سألت الله له ولمحبيه أن يفوزوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
أبو عبد الله ودّعناك في دارك التي نسأل الله أن يجعلها عليك روضة من رياض الجنة.. وأول منازلك من منازل الجنة.
ودّعناك يوم السبت 25-4-1431هـ.
رقدت في مرقدك في بطن الأرض وإخوانك على ظهرها يرسلون لك الدعاء والذكر الحسن والسجايا العطرة.
أبو عبد الله ابتليت فصبرت.
أسأل الله تعالى ألا يحرمك مما قاله نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: (وإذا أحب الله عبداً ابتلاه).
وإنا على فراقك يا تركي لمحزونون.
سعود بن عبد المحسن الشبانات
روضة سدير