Al Jazirah NewsPaper Thursday  13/05/2010 G Issue 13741
الخميس 29 جمادى الأول 1431   العدد  13741
 

الشيخ أحمد الشدي في ذاكرتي

 

لو كان يخلد بالفضائل فاضل

وصلت لك الآجال بالآجال

من الرجال من إذا تولى وغاب غيابا أبديا، وأضمرت جسمه الحفر في باطن الأرض، فإن ذكره ما يلبث أن يتلاشى ويمسح من ذاكرة الزمن شيئاً فشيئاً حتى ينسى، على حين من كانت له آثار ينتفع بها في مجتمعه وفي محيطه الأسري من علم ينتفع به، أو عمل صالح مشرف، وبذل في أوجه البر والإحسان، وصلة الأرحام والإحسان للضعفة منهم، فإنه يسود في مجتمعه، ويظل ذكره طرياً ندياً يلذ للأسماع على تعاقب الدهور والعصور حتى ولو بعد الممات، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول حاثاً على البذل السخي للأقربين:

وإذا رزقت من النوافل ثروة

فامنح عشيرتك الأقارب فضلها

ونحمد الله أنهم في هذا العصر كثر رجالاً ونساء يتنافسون في الأعمال الخيرية رجاء المثوبة من رب البرية، وتخليداً لذكراهم بعد الرحيل إلى دار المقام، وهذا يذكرنا بشيخنا وحبيبنا المعطرة سيرته بالثناء والذكر الحسن: إنه الشيخ الفاضل أحمد بن علي بن محمد الشدي الذي انتقل إلى الدار الباقية يوم 4 ذي القعدة عام 1418هـ -تغمده الله بواسع رحمته- والذي كان له دور فاعل في لم شمل الأسر وإصلاح ذات البين في مجالات واسعة أخرى في الحياة، وبخاصة بعد ما كبر وترعرع ودرس القرآن الكريم على الشيخ إبراهيم بن محمد بن ناصر، ثم على الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن سودا -رحمهم الله- وبعد أن ختم القرآن الكريم اتجه إلى طلب العلم على فضيلة الشيخ محمد بن فيصل بن مبارك، ثم على فضيلة الشيخ إبراهيم بن سليمان آل راشد، ثم على والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف، أذكر وأنا في دور الطفولة أنه على صلة قوية به كثير التردد عليه في منزلنا - وطرح بعض الأسئلة عليه في المسائل الفقهية والعلوم التي تتعلق بالعقيدة وإخلاص العبادة لرب العالمين، فقد استفاد من والدنا فائدة كبرى وكأن لسان حال والديه قد تمثل معنى هذا البيت ناصحان له بملازمة الوالد -رحمه الله-.

هو البحر فازدد منه قرباً

تزدد من الجهل بعدا

وقد فعل -رحمه الله- ولم يقتصر على ذلك بل إنه طلب من والدي الشيخ عبدالرحمن أن يحضر إلى المسجد الجامع بحريملاء ليسمع قراءته على جماعة المسجد قبيل صلاة العشاء كل ليلة من بعض الكتب المفيدة للعامة والخاصة، ليستفيد من تعليقاته وتوجيهاته في بعض الحالات التي تستوجب الإيضاحات، لتعم الفائدة للجميع، كذلك قراءة بعض كتب السيرة والمطولات مما أهله ليكون داعية ومرشداً وبخاصة في تلك الحقب البعيدة التي يندر فيها وجود طلبة علم بها، ولا زال يرن في أذني صوته المميز الجميل رغم تقادم الزمن -رحمه الله-.

تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث

وصوتها يتلو الأحاديث والسيرا

وكان يحضر (ذاك الدرس) بالمسجد عدد كبير من الأهالي ومن أصحاب الحرف والفلاحة من أطراف البلاد طمعاً في الاستفادة من سماع الأحاديث والسير رغم ما ينالهم من متاعب جمة أثناء النهار نتيجة مزاولتهم الأعمال البدنية الشاقة في مزارعهم لأجل تأمين لقمة العيش لهم ولأسرهم، وفي تلك الأثناء طلب منه الشيخ إبراهيم بن سليمان آل راشد -قاضي البلد آنذاك- أن يقوم بتدريس القرآن الكريم والعلوم الدينية في مدرسة خاصة بحريملاء.

ثم انتقل بعد ذلك إلى الرياض وتلقى العلم على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعلى سماحة الشيخ عبدالله بن حميد - رحمهم الله جميعا - فارتوى من معين العلوم الشريعة واللغة العربية، وقد أضفى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم عليه ثناء عاطرا في مجلس الملك عبدالعزيز لما لمسه فيه من سرعة فهمه وقوة حفظه للمتون، فما كان من الملك -طيب الله ثراه- إلا أن وجه له خطاباً رسميا بأن يتوجه إلى بلدة (الرويضة) الواقعة غربي محافظة حريملاء ليكون إماماً لأهلها ومرشداً وخطيبا، ومكث هناك حوالي عشرة أعوام ثم طلب من الملك إعفاءه، فانتقل إلى الرياض حيث عمل عدة أعمال كان آخرها عضوا في رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرياض، وقد أشرع باب منزله في تلك الفترة لمن يؤمه من الأقارب والمعارف ليأنس بهم، وتدور بينهم أحاديث شيقة تزيد من مخزونهم العلمي والأدبي، وتوسع آفاق المعرفة لمن ينصت إلى سماع تلك القصص والأحاديث، فمجلسه ذاك يشبه إلى حد ما بعض الصوالين الأدبية في عصرنا الحاضر، فأحاديث الشيخ أحمد -أبو محمد- لها طابع خاص تؤنس الحضور لتنوع مصادرها وحلو صياغتها، بتطعيمها بالطرائف والحكم الهادفة، ومن غريب حوادث الزمن فأبو محمد -يرحمه الله- يغرف من بحيرات ذاكرته الشيء الكثير من نوادر القصص وأخبار الماضين، كما أن له إلماما بالقواعد النحوية، وأذكر جيدا أنه قد أعطاني مثالا من الآيات القرآنية لأجل إعرابه: ?وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً? فتوقفت عند إعرابه لصغر سني وعدم تعمقي في اللغة -آنذاك-، فقال إنه منصوب بنزع الخافض، والمعنى واختار موسى من قومه -فجزاه الله عنا خيرا- فأفضال -أبو محمد- وأعماله الجليلة كثيرة، فقد أهدى للمكتبة العامة بحريملاء جزءاً كبيراً من مكتبته الخاصة تقدر بأكثر من ألف كتاب، كما طبع على نفقته الخاصة عددا من الكتب المفيدة فوزعها على طلبة العلم وغيرهم من القراء ابتغاء مرضاة الله، ومن حبه إلى مهوى رأسه ومدارج صباه وطفولته بحريملاء أنه اشترى بعض النخيل المجاورة لنخله فضمها إليه بسور واحد، وبنى قصراً رحباً في أحد جوانب النخل ليكون بمثابة الاستراحة له ولنجليه الكريمين المعروفين بإثراء الصحافة بما تجود به أقلامهما من عذب الكلام الفصيح، والحكم الصائبة، واستقبال من يؤمه من الزوار في إجازتي العيدين، وفي يومي الخميس والجمعة، فأبو محمد محبوب لدى الجميع ولدى أترابه ولداته، فالبعض منهم ينتهز تواجده في مزرعته ليأنسوا بالحديث معه والتطرق لذكريات الصغر والطفولة معه فهي تحلو لهم:

وما بقيت من اللذات إلا

محادثة الرجال ذوي العقول

وكان -يرحمه الله- في مواسم جذاذ النخيل يخصص جزءاً كبيراً من تلك الثمار اليانعة جيدة النوعية من التمور فيمنح أقرباءه وأصدقاءه، وعددا من الفقراء والمحتاجين أجزل الله له الأجر والمثوبة، فالله سبحانه يقول {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، فالذكريات الجميلة مع شيخنا أحمد لا تنسى مدى العمر - تغمده الله بواسع رحمته-.

عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف

حريملاء

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد