لا تختلف المدن في علاقتها مع الأمطار، التي تتحول في دقائق معدودات من «أمطار خير وبركة» إلى كارثة بيئية، وإنسانية قاتلة. مدن عطشى تبحث عن قطرة ماء، يُدفع من أجل تحليتها المليارات، في الوقت الذي تُسارع فيه بهدر مياه الأمطار والتخلص منها بطرق توحي وكأنها شُيدت على ضفاف الأنهار لا الصحاري الجافة!. مُدن تمتلك من الأموال ما يجعلها في مصاف المدن العالمية، ومن الدعم الحكومي ما يجعلها في غنىً عن البحث عن أعذار التقصير التي ربما كانت أكثر إيلاما من الكارثة نفسها. مُدنٌ تتسابق لتنفيذ المشروعات الجمالية، واستهلاك جزء لا يستهان به من ميزانيتها في الصيانة، ونقض الأرصفة السليمة وإعادة رصفها بالحجر الأحمر المُكلِّف، في وقتٍ تعجز فيه عن تنفيذ مشروعات تصريف المياه ولو بصورة جزئية مجدولة على سنواتٍ عشر. كتبت بعد كارثة جدة مقالة بعنوان «مدن مهددة بالغرق» وها نحن نشهد بعض ما كتبت عنه، وحذرت منه، وكتب عنه الآخرون.
يتسابق المسؤولون لتقاذف كرة النار الملتهبة، فالجميع حريصون على تبرئة ساحتهم، أمام ولي الأمر، والمواطنين، من تداعيات أزمات الغرق، متناسين براءة الذمة من التقصير الذي قد يقود إلى هلاك النفس، ودمار الممتلكات، وخلق المشكلات العظام ما يجعلنا جميعاً مسؤولون أمام الله في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون.لن يقبل الله منا عذر «الاعتمادات المالية» فالأموال متوفرة ولله الحمد، والاحتياطات المالية تزيد على 1.6 تريليون ريال، إضافة إلى ذلك فالدولة حفظها الله عزمت على إنفاق 262 مليار ريال على مشروعات التنمية في العام الحالي، ومن يدفع ذلك المبلغ الضخم لن يتردد في تغطية اعتمادات مشروعات تصريف السيول والأمطار!. إضافة إلى ذلك فوزارة المالية، ما هي إلا وزارة ضمن وزارات الدولة، ولا يمكنها التفرد بالقرار، أو ممارسة حق النقض تجاه المشروعات المُقَرة، إلا في حدود صلاحياتها!؛وولي الأمر الذي لم يتردد في إقرار مثل تلك المشروعات الحيوية، وفرض اعتماداتها المالية في حال اكتمالها، وموافقتها الدراسات الفنية، وحسابات التكلفة الدقيقة.
قد يُقبل عذر الاعتمادات المالية على مضض، ولكن ماذا عن نوعية المشروعات المنفذة التي تحولت إلى خزانات ضخمة لاحتجاز مياه الأمطار؟. الأنفاق المنفذة في جدة، الرياض والدمام غرقت في أول اختبار حقيقي من الأمطار المفاجئة، وتغرق منذ أعوام دون أن تُحل مشكلاتها الخطرة. تحول الأنفاق إلى خزانات مياه يفتح ملف تصميم الأنفاق وتنفيذها. عشرات المليارات أنفقت على الأنفاق، الجسور، والطرق التي تضررت من كميات الأمطار المتوسطة التي هطلت تباعا على مناطق المملكة. تصاميم لا ترقى إلى مستوى الكفاءة العالمية، والحاجة الملحة، وتنفيذ رديء تقوم به شركات محلية همها الأول الكسب المالي السريع ما يجعلها منغمسة في عقود الباطن دون النظر إلى مصلحة الوطن، وأمانة التنفيذ، وإشراف لا يرقى حد المسؤولية وضمان كفاءة الإنجاز ما يتسبب في هدر المال العام، والإضرار بالوطن والمواطنين.
فلسفة دعم القطاع الخاص من خلال العقود التفضيلية يُفترض أن تتوقف بعد أن كشفت بعض المشروعات المنفذة محليا عن رداءة التصميم، التنفيذ، والإشراف. المشروعات الضخمة، ومنها الطرق، الأنفاق، الكباري، وشبكات الصرف يٌفترض أن يُعهد بها للشركات العالمية في مراحلها الثلاث، التصميم، التنفيذ، والإشراف، على أن تتم ترسيتها وإدارتها من خلال لجان خاصة، ومستقلة بالكلية عن الوزارات المستفيدة، مرتبطة بمقام مجلس الوزراء، وتوفير الاعتمادات المالية الكافية، والاستثنائية متى لزم الأمر.
غرق المدن الرئيسة تسبب في إزهاق الأرواح، وتلف الممتلكات، وكبد المواطنين خسائر مالية ونفسية مؤلمة، وأساء لسمعة المملكة في الخارج، وهو ما يوجب القيام بأعمال استثنائية عاجلة لمعالجة الأخطاء، وبناء ما دمرته الأمطار والسيول، وتعويض المتضررين، ووضع إستراتيجية وطنية شاملة لتنفيذ شبكات تصريف الأمطار والسيول في جميع المدن السعودية، والمدن المهددة على وجه الخصوص. لتكن ميزانية العام 2011 الخدمية موجهة لإنفاذ مشروعات الصرف الشاملة، فالتغيرات المناخية تُنبيء بعودة الأمطار والسيول إلى جزيرة العرب، وتُنبيء بإمكانية حدوث الكوارث البيئية التي ربما كانت أشد وأقسى مما حدث في جدة والرياض. يمكن للمجتمع التعايش مع الخدمات الأخرى دون تغيير لعام قادم، أو ربما عامين، إلا أن أفراده لن يستطيعوا الصمود أمام كوارث الأمطار والسيول. نؤمن بقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا»، إلا أننا لا نترجم ذلك الإيمان إلى عمل على أرض الواقع!. نبوءة الرسول الكريم يُفترض أن تجعلنا أكثر حرصا على تنفيذ مشروعات الصرف الكفيلة بحماية مدننا من الغرق، ومواطنينا من الهلاك، ومشروعاتنا الإستراتيجية من الدمار الذي قد تحدثه السيول الجارفة. المشروع الوطني لإنجاز شبكات صرف مياه الأمطار والسيول يمكن إنجازه خلال خمس سنوات قادمة شريطة ألا ترتبط وطنية المشروع بهوية المصممين، المنفذين، والمشرفين. الشركات العالمية، وبيوت التصميم، والإشراف العالمية والهيئات الدولية هي القادرة على إنجاز المشروع الوطني الطموح، بعيدا عن الهدر وسوء التصميم، وأخطاء التنفيذ، وبطء الإنجاز. المشروع الوطني لإنجاز شبكات الصرف لن يحقق الحماية للمدن والسكان فحسب، بل سيساعد في حفظ ثروة الأمطار والسيول المهدرة إذا ما تم توجيهها لخزانات أرضية (الآبار الجافة)، أو برك طبيعية، أو اصطناعية تُساعد في حل جزء من مشكلة المياه في المدن الرئيسة كمدينة الرياض، أو على الأقل الاستفادة منها كمخزون إستراتيجي للمياه في حال تعطل الإمدادات الرئيسة.
***
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM