عرضنا في القسم الأول من هذه المقالة عن مفاهيم ثقافة المؤسسة بمستوياتها الثلاثة, وأشرنا إلى أن هذه المقالة تناقش فلسفة القيادة كمفهوم إداري يحقق نتائج فعّالة في مجال العمل الإداري والقيادي. وأنهينا القسم السابق بعرض بعض التعريفات لمفهوم فلسفة القيادة ومكوناتها.
وتجدر الإشارة إلى أن عناصر فلسفة القيادة ليست عناصر ثابتة أو ملزمة يتعين على كل قائد الأخذ بها أو ترتيبها وفق أولوية معينة - كما هو الحال بالنسبة لمبادئ الحرب أو مبادئ القيادة مثلاً - ولكن، فلسفة القيادة تتكون وتتحدد وفقاً لتصورات القائد وقناعته الشخصية التي اكتسبها من خبراته العلمية والعملية. ووفقاً للمجال الذي سيمارس فيه القائد صلاحياته القيادية، فعناصر الفلسفة القيادية لوحدة مقاتلة مثلاً، تختلف في ترتيبها ومضمونها فيما لو كانت تلك الوحدة تدريبية أو مركز قيادة، أو مرفقاً تعليمياً. ومن ثمَّ، فإن للقائد أن يضمِّن فلسفته القيادية عناصر دون أخرى، وأن يبتكر عناصر جديدة تلاءم الرجال والزمان والمكان والمهام والبيئة العامة كلما دعت الحاجة.
وفي رأيي، أن من الضرورة أن يكون من ضمن محتويات «فلسفة القيادة» لأي قائد أو مدير عناصر ثلاثة يحسن به ألاَّ يغفل عنها وهي: «الرؤية المستقبلية»، و»الطاعة»، و»الالتزام». فهذه العناصر الثلاثة، تعضِّد قائمة العناصر الأخرى التي تشكِّل بكاملها فلسفة القائد. وقد أشرنا إلى أن الفلسفة تعرض بوضوح المبادئ والأساليب التي يعلنها القائد صراحة لينطلق بموجبها نحو تحقيق مهام وواجبات وحدته. والقائد بهذا الأسلوب قد رسم موقفه ورغباته في الكيفية التي يتطلع إلى إنجاز الأعمال بموجبها، ومن خلالها يحدد كيفية التعامل مع المرؤوسين، وما هي حدود التسامح أو التشديد في قضايا دون أخرى، طبقاً للعناصر التي تكوِّن فلسفته القيادية. ولأهمية هذه العناصر الثلاثة، نعرض لها في الفقرة التالية بشيء من التفصيل.
تعتبر «الرؤية المستقبلية - vision» ركناً هاماً في فلسفة القائد، من حيث أنها تسلط الضوء على الطريق الصحيح نحو إنجاز أهداف الوحدة. وبحسب «الدليل الميداني للجيش الأمريكي: القيادة وفن القيادة في المستويات العليا»، تُعرَّف الرؤية المستقبلية بأنها: «مفهوم محدد لما ينبغي أن تتمكن المؤسسة من فعله في تاريخ معين في المستقبل. وهي بذلك، تلقي مزيداً من التركيز على الأعمال والخطوط التوجيهية التي تسير على هديها الوحدة». وعلى المنوال نفسه، يقول جون وأيلي في تعريف آخر للرؤية المستقبلية: «إنها مفهوم يحقق تركيز انتباه المرؤوسين في وحدتهم، ويغرس في نفوسهم الإحساس بالاتجاه الصحيح، حتى يحشدوا طاقاتهم لمتابعة العمل حتى نجاحه».
فإذا افترضنا أن الحديث عن قاعدة تدريب عسكرية، فإن من الأمثلة أن تتلخص «الرؤية المستقبلية» لقائدها في «أن يحوز الجيش على ضباط وضباط صف وجنود، تأهلوا على مستوى رفيع من التدريب الاحترافي والكفاءة المهنية». وحتى يصبح الجنود في قمة الاحتراف، فإن عليهم أن يتحلوا بالمعرفة، ويكونوا على مستوى رفيع من اللياقة الذهنية والبدنية. ولذلك، ينبغي التشديد والإصرار في تقوية عزائم الجنود، وغرس الحديد في دمائهم، من خلال التدريب القاسي والموجَّه، الذي يستمد من الفلسفة الواضحة التي تعتبر «الرؤية» أحد عناصرها.
ولكي يتمكّن الجنود من الوفاء بالمعايير الرفيعة التي تميّز جندي اليوم، لابد أن تشتمل «الرؤية المستقبلية» لقائد قاعدة التدريب - المفترضة - على أهمية التطوير المستمر لقاعدة التدريب من خلال نظريات التدريب الحديثة. ويحقق القائد ذلك بالعمل على تأمين أفضل المرافق والوسائل، وعلى تطوير مستمر للمناهج، مع ضرورة تدريسها والتدريب عليها من قبل ضباط وضباط صف محترفين، ومدنيين مؤهلين في هذا المجال.
وبهذه الرؤية المستقبلية كجزء من الفلسفة القيادية، تتمكن مثل تلك القاعدة - المفترضة - من تخريج قادة يملكون القدرة على الوفاء باحتياجات الأمة مستقبلاً، وجنود أكثر جاهزية لتنفيذ المهام. ولهذا يمكن القول, إن قادة اليوم ما لم تشتمل فلسفتهم القيادية على «رؤية مستقبلية» واضحة المعالم، فإن الأمة لن تحصل غداً على قادة من الطراز الذي تصبو إليه.
وإذا ما انتقلنا بالحديث إلى عنصر «الطاعة»، وجدناها تُشكِّل حجر الأساس الذي تقوم عليه أية مؤسسة عسكرية، وهي في العسكرية الإسلامية ذات مكانة خاصة، لأنها فضلاً عن كونها قاعدة للعمل العسكري، فإنها في الوقت ذاته عقيدة إيمانية تدفع المقاتل المسلم إلى أداء الأوامر واجتناب النواهي، ما لم يؤمر بمعصية الله أو يُنهى عن طاعته.
وتُعرَّف الطاعة في معظم القواميس بأنها: «الإذعان لإرادة الآخرين». ولكنها، في معناها الاصطلاحي تشير إلى إحساس بالواجب يُستمَد من توجيه خارجي، وسلطة ينبغي أن تطاع طبقاً لما تمليه الأنظمة. وكثيراً ما يتداخل مفهوم الطاعة مع مفهوم الانضباط، ويرتبطان ببعضهما ارتباط النتيجة بالسبب. وقد تذكر الطاعة على أنها المرادف للانضباط، وأياً ما كان الأمر، فإنها إحدى الضرورات العسكرية التي يُنشَّأ عليها الجندي منذ المراحل الأولى لحياته العسكرية. وإن اكتساب المقاتل للطاعة كإحدى صفاته الشخصية، وتمرُّسه عليها، يسهِّل على القائد السيطرة على مرؤوسيه، وحملهم على إنجاز ما يكلفون به من مهام، حتى ولو لم تكن موافقة لأهوائهم وقناعاتهم. كما أن الطاعة تحول دون مظاهر النزاع والاحتكاك الذي قد ينشأ بين الأفراد نتيجة عدم قناعتهم بالأوامر التي تصل إليهم عبر التسلسل القيادي.
من الطرح السابق نجد أن الطاعة عنصر أساسي من عناصر فلسفة القيادة ينبغي على القائد أن يرسخه في نفوس جنوده داخل الوحدة، وأن يبتكر من الوسائل والأساليب ما يجعل تطبيقه العملي أمراً واضحاً للعيان. فالقائد الذي يؤسس فلسفته القيادية على اعتبار الطاعة عنصراً أصيلاً من عناصرها سيجد لديه حتماً حلولاً جذرية وسريعة لكل ما قد يواجهه داخل وحدته من عقبات تخلّ بمبدأ الطاعة. وبحسن التأهيل على التحلي بالطاعة بمفاهيمها الايجابية يضمن القائد سير العمل وإنجاز المهام على أحسن وجه ممكن؛ على العكس مما لو أُغفل هذا العنصر وتلاشى من قائمة عناصر فلسفته القيادية التي ينطلق منها في إدارة شؤون وحدته. ومن الطبيعي أن للطاعة شروطا لا بد من توفرها حتى تتحقق وتتحول إلى سلوك عام، ولعل العدالة واحدة من شروط الطاعة.
ونأتي أخيراً إلى عنصر «الالتزام» لنجد أن من الأهمية أن يكون هذا المبدأ واحداً من أهم عناصر فلسفة القيادة، وأن يعمل القادة على ترسيخه وتأكيد أهميته في نفوس جنودهم. ويُعرَّف الالتزام لغوياً بأنه: «الاعتقاد الراسخ في فكرة أو نظام». وإذا كان الالتزام بهذا المعنى يختلف عن الطاعة في أنه يتضمن إحساساً بالواجب ينبع من الداخل انطلاقاً من مجموعة معقدة من المعتقدات والقناعات والقرارات الشخصية التي تنطوي عليها نفس الجندي، فإنه يعتبر في الوقت ذاته طوراً متقدماً من أطوار الطاعة، أو صورة من صورها الراقية، وهي الطاعة المتولدة عن القناعة.
فالجندي الذي يقتنع بأوامر قائده ويطيعه في تنفيذها، سيوف يكون «ملتزماً» عند التنفيذ، وسيأتي أداؤه من الإتقان والجودة عند المستوى المأمول. بل إن الجندي الذي يتحلى بهذه الصفة الحميدة سيكون على استعداد تام للتضحية بحياته في سبيل إنجاز الواجب الذي يُكلف به، وذلك ما لا نجد له أثراً في حالة افتقار المقاتل للشعور بالالتزام نحو الواجب المكلف به. وما من شك في أن انطلاق القائد في فلسفته القيادية من ترسيخ مفهوم الالتزام - بمستوياته الثلاثة: «التنظيمي، والاحترافي أو المهني، والأخلاقي» - وتوطينه في نفوس مرؤوسيه، سينعكس إيجاباً على أسلوبه القيادي وتعامله اليومي معهم. كما أن إدراج القائد لمفهوم الالتزام ضمن عناصر فلسفته القيادية سيجعله هو نفسه ملتزماً تجاه نفسه وتجاه رؤسائه وتجاه مرؤوسيه، الأمر الذي يسمو به إلى مصاف القادة المتميزين في قيادة الآخرين والتأثير فيهم.
وهكذا يتضح لنا أن «فلسفة القيادة» هي الآلية التي يُنجَز من خلالها العمل في الوحدة العسكرية، مع اعتقادي بأن الوحدة لن توفق في إنجاز أهدافها دون وجود «فلسفة قيادة» تتضمن عنصر «الرؤية المستقبلية» للقائد، ثم موقفه من عنصري «الالتزام» و»الطاعة» ضمن قائمة مكونات عناصر فلسفته في قيادة الوحدة.
mabosak@yahoo.com