الفهم غير الصحيح في أي أمر لا شك مؤداه إلى الوقوع بالخطأ في مختلف أشكاله وحينما يتعلق الأمر بمفاهيم مدرسة أو تيار أو فكر أو أيدولوجيا محددة يجب التوسع في الاطلاع والتعمق بالفكر قبل إطلاق الأحكام.
نعاني اليوم من هاجس التوصيف القاتل الذي يؤدي في كثير من أشكاله إلى تحطم الشخصية وانعزال وانطواء صاحبها أو من تم وصفه بصفات ليس به بخلاف ما يؤدي ذلك بالعامة لفهم مضمون الوصف والشريحة التي تم وصف شخص بانتمائه لها، يؤدي ذلك بالعامة للفهم الخطأ وتبدأ مرحلة جديدة من انتقال المفهوم الذي وصل خطأً إلى شرائح أخرى ويتداول الناس بعدئذ تلك الأوصاف ويلصقونها بأي شخص وبأي مكان، فيكفي أن تسأل أحدهم إن كان يصلي بالمسجد فيرد بالنفي معللاً أن ذلك من الحريات التي تكفلها له الليبرالية التي يزعم انتماؤه لها، وآخر يمارس فعلاً مرفوضاً دينياً وأخلاقياً واجتماعياً، ويزعم أن الليبرالية لا تمنعه من ذلك وما دونها يعتبر بينه وبين ربه، فأصبح بالتالي كل من أراد ارتكاب ما يخالف الطبيعة يدعي بتفاخر انتماءه لليبرالية التي يظن أنها تحميه وتكفل له تقبل الطرف الآخر لما يفعله. لذلك ولعدم فهم الكثيرين لليبرالية الحقة، اتخذوها مطية لتمرير أفعالهم بغية الحصول على قبول اجتماعي أو تبرير ما يرتكبونه من أخطاء.
تجد في الجانب الآخر أتباع التيارات الأخرى، المتشدد منهم والمتزن وبسبب عدم فهمهم للفروقات الكبيرة بين التيارات الفكرية، يشنون حروباً ضروس على كل من يخرج بفعل لا يتوافق ومنهجياتهم ويطلقون عليه ما يحلو لهم من صفات ويتبّعونه لأقرب مدرسة أو فكر يكون اسمها حاضراً في ذهنه في تلك اللحظة، الأمر الذي لا يولد لدى من تم نعته بتبعيته لمنهج معين كرهاً تجاههم فقط بل قد يدفعه ذلك إلى معرفة التيار الذي وُصف بتبعيته له وتعمقه في دراسته ومن ثم قد ينتهجه.
لم يكن نشوء الليبرالية من أجل إطلاق التصنيفات على الأفراد ولم يكن أيضاً من أجل استخدامها كذريعة لتمرير التصرفات غير المقبولة اجتماعياً أو أخلاقياً أو عقائدياً بل إن الليبرالية الحقيقية انطلقت من حقيقة رئيسة مفادها أن الليبرالية الغربية كانت قد نشأت في ظل ظروف سياسية واجتماعية خاصة، وأنها ظهرت كرد فعل للاضطهاد الكنسي للعلماء من جهة، وللاستبداد السياسي والاقتصادي من قبل النبلاء والإقطاعيين من جهة أخرى، وعبر تحالف السلطتين الدينية السياسية والإقطاعية التي تمكن من خلالها رجال الدين المسيحي من فرض سلطانهم على العقلية العلمية الأوروبية، وحرموا بالتالي على العلماء والمفكرين الخوض في الكثير من القضايا التي أعطيت صفة القداسة، ومن ذلك الاضطهاد الذي تعرض له الفلكي الإيطالي غاليليه لادعائه دوران الأرض حول الشمس وليس العكس، وهو الأمر الذي يتناقض مع رأي الكنيسة التي تبنت نظرية بطليموس وألبستها صبغة القداسة.
وذهبت بعد ذلك الليبرالية التي نادت بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيداً عن المسلمات الأولية المتناقضة في النصوص الدينية، ولم يكن ذلك يعني التملص من الإيمان الديني عند معظم أتباع المدرسة العلمانية، بل كانت حركتهم موجهة نحو تخليص العقل من سلطان الكنيسة لعدم إمكان الجمع بينهما، وبالتالي عزل الإيمان الغيبي (الميتافيزيقا) عن الواقع التجريبي المحسوس. ما يعني أن حركة التنوير الأوروبية قد قامت وفق تسلسل مرحلي تلقائي بدءاً من العلمانية ثم الليبرالية وأخيراً الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة عن الأخرى أو تجاوز اللاحقة منها للسابقة.
وهكذا فإن المفهوم الليبرالي العربي للغرب لا يتعدى كونه مفهوماً ذاتياً لا موضوعياً، بحيث تقتصر دراسة المجتمعين الإسلامي والغربي على تقصي النواقص في الأول، وتلمس المزايا في الثاني، وكأن الأمر لا يخرج عن آلية المفاضلة لنقل الأول إلى الثاني ليس إلا، وبغض النظر عن تفهم حاجة الأول، وأخطاء الثاني.
وهذا فخ آخر يقع فيه الليبرالي العربي، ففي الوقت الذي يلوم فيه «الإسلامي» على استسلامه لعقدة المؤامرة التي تحكم نظرته للآخر، يكاد هو يحصر مفهومه عن الآخر في نطاق التمثل والتقليد، وإذا كان الأول يحاكم الآخر انطلاقاً من الثقة بالذات، فإن الثاني يحاكم الذات انطلاقاً من انهزامه أمام الآخر، وهذا الأمر يتناقض أيضاً مع واحدة من أهم مسلمات الليبرالية التي تنظر إلى كل من الذات والموضوع بحياد ونزاهة.
المؤسف حقاً ليس في فهم أتباع الليبرالية العرب لأصول نشأة الليبرالية وتتبع تطورها في صورتها الغربية الحقيقية، وإنما في امتطاء كثير منهم لصهوتها بغية تحقيق انتصار وقتي زائف وتمرد لحظي هش على الخطاب الديني دون اكتراث لما يمكن أن يحدثه ذلك من خلل في التركيبة الفكرية الأيديولوجية لديهم، إذ يذهب الكثير للدفاع المستميت عن مرجعيتهم المزعومة وانتمائهم الزائف دون تحليل موضوعي منطقي لبديهيات هذا التيار أو هذا الفكر، ما جعل أتباع التيارات الفكرية الأخرى يسارعون في كيل التهم جزافاً دون فهم أيضاً لكل من يخالفهم الرأي ما أدى إلى ظهور مواقف كثيرة تم ترجمتها إلى واقع محسوس من الخلاف الفكري الذي لن يزيد الأمة إلا دماراً، فنجد هذا يتهم الآخر بأنه ليبرالي وآخر علماني وثالث أصولي وهكذا، وعلى الرغم من تحفظي الشديد وغيري على نسب الفكر لصاحبه؛ كأن يقال «فلان علماني»، والأصح أن يقال «فلان يتبع الفكر أو التيار أو المدرسة أو المذهب العلماني»، إلا أن ذلك ليس بأهمية قراءة مفهوم ما نسب إليه الشخص قبل اتهامه بذلك، فليس كل من طالب بالتحليل والمنطق والدراسة أصبح متحرراً أو ليبرالياً، وليس كل من ألحد أصبح من أتباع الفكر العلماني، وليس كل من تمسك بتعاليم الإسلام أصبح أصولياً.
ختاماً، فإن الليبرالية الغربية لم تنشأ في أوروبا إلا بعد أن قطعت مرحلة طويلة من التطوير والتحديث، وكان الدافع لوجودها هو حاجة الفرد الأوروبي إلى ذلك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يضمن له حريته وكرامته، ويوفر له حاجاته المعيشية بشكل متوازن، وعليه، فقد كان حريّاً بالليبراليين العرب إذ رفعوا شعار تحقيق مصالح الفرد العربي والدفاع عن حقوقه، أن يمعنوا النظر أولاً في خصوصيته وظروفه التي تحيط به، وأن يتجردوا وفقاً للمفهوم الليبرالي من كافة المعطيات المسبقة التي تلقفوها عن الغرب، ثم يعملوا عقولهم في استنباط نظام ليبرالي حر يكفل تحقيق كافة حقوق الفرد العربي، ويؤمن له معيشة كريمة لا يعاني فيها من أي تناقض مع إيمانه الغيبي أثناء تفاعله مع معطيات الحياة اليومية، ثم يذهبوا إلى شرح تلك النسخة من الليبرالية العربية للجميع، ولتكن صورتها واضحة لدى عناق التيارات الفكرية أو العقائدية الأخرى حتى لا يتم كيل التهم جزافاً على الأتباع الأصليين للفكر الليبرالي، وحتى لا يكون هناك ذريعة لمن أراد أن يخرج عن أصول ومقومات وقيم المجتمع من خلال اعتناقه لليبرالية. إلى لقاء قادم إن كتب الله.