العدل أساس قيام الدول، وضمان بقاء الحكم، وسر انتصار الأمم، به قامت السموات والأرض، وعلى أساسه يجمع الله الخلق على صعيد واحد ويحاسبهم في يوم الصاخة العظيم، وإن كان العدل مطلوباً في كل مناحي الحياة فهو في الحكم أشد وأهم، ولذا صار الملك العادل أول سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وكما أن العدل في العطاء أمر هام فإن العدل في العقوبة أهم، وشرط العدل الصحيح المساواة بين الجميع، واختلال ميزان العدل ولو في أيسر الأمور عنوان هلاك الأمم «إنما أهلك من كان قبلكم...» ولا وجود لأمن، ولا قدرت لحاكم على النوم قرير العين إلا حين يقيم العدل على أساس صحيح، ولذا حُقّ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينام تحت ظل شجرة فهو كما قال عنه رسول كسرى «عدلت فأمنت فنمت»، والتاريخ يحفظ لنا أسماء رجال حكموا فعدلوا بين الناس بالسوية فسادوا وعلت راياتهم وخلد المؤرخون ذكراهم، وتاريخنا المعاصر جزماً سيذكر خادم الحرمين الشريفين ضمن منظومة من ساس الناس بالعدل وحارب الفساد وحرص على تحقيق المساواة بين أفراد الشعب، ولعل ما صدر يوم الاثنين الماضي في حق المقصرين والمتهاونين ممن تتجه إليهم أصابع الاتهام في فاجعة جدة دليل جديد وبرهان أكيد على هذا الأمر، يضاف هذا الدليل لما سبق من براهين وأدلة عديدة وسيلحق به غيره عمّا قريب بإذن الله. لقد كان المنطلق للمسألة ومن ثم العقوبة واضح بين في ذهنية المليك والدليل التأصيل من القرآن والسنة حاضر لم يغب، والمسؤولية التي تقع على عاتق ولي الأمر جاء فيها التصريح لا التلميح. إننا هنا أمام ملك رمز أراد العزة لشعبه والأمن لوطنه والسعادة لمن تحت حكمه فلتزم النهج وتحدى الصعب وركب المخاطر وفتح قنوات الحوار مع الآخر، وكان صريحاً صادقاً فيما يقول مخلصاً جاداً فيما يفعل فعلت على يديه الراية وقوي البناء وشاع العلم وانتصر الضعفاء وعّم الرخاء، ورغم كل التحديات ومع تعدد المشكلات تظل بلاد الحرمين الشريفين ولله الحمد والمنة منارة تهدي الحيران وتدل السائر، رغم تشبع الطرق وتنوع الأنساق وتباينها واختلاف نهاياتها في عالم اليوم فنحن طريقنا واحد ومنهجنا وسط وسبيلنا واضح ونهايته طلب خيري الدنيا والآخرة.
إن فاجعة جدة مصيبة ومحنة ولكن قد يكون في طيات الشدائد خير، ومن جنح الظلام يولد النور، والفجر الصادق لا يكون إلا بعد ليل دامس، وربما كانت المحن منح، والمصائب فضل، والأقدار سبيل التمحيص وطريق الفلاح، وإن كانت الشدائد تظهر معادن الرجال سواء في مواقفهم الشخصية التي يمر بها أصدقائهم وأقاربهم أو حتى في مواقفهم الوظيفية إزاء الأزمات التي قد تواجههم وهم على كرسي المسؤولية، فإنها في ذات الوقت تظهر لنا معادن مؤسساتنا والقطاعات الخدمية في بلادنا، والسيول والأمطار كشفت لنا واقع أكبر مدينتين في المملكة خاصة في مجال الصرف الصحي والمخططات السكنية والقطاع الخدمي، ومع أن المسؤولية مشتركة والشق أوسع من الرتق إلا أن خادم الحرمين الشريفين انبرى بنفسه ونشد العدل مهما كانت الصعاب ووعد بإنزال العقوبة على كائن من كان، وبالفعل وعد فوفى وقال فصدق وقرر فأصاب فبأكف ضارعة لله عز وجل داعية الحق سبحانه وتعالى، دعاء خاشعا ترسله القلوب المنكسرة في هجيع الليل الآخر، بين يدي الخالق القيوم الذي لا ينام، دعاء من القلب المحب الصادق أن يحفظ من أمر وتابع، ومن قدّر فأحسن التقدير، ومن قرر فأصاب المفصل دعاء لك، أنت، أنت يا أبا متعب، يا من تعبت لنرتاح وسهرت لننام، دعاء لك من قلوب الملايين بأن يحفظك لنا الله ويرعاك، ويسدد على الخير خطاك، وجزماً كل كلمة تقال في حقك تتقازم عند قامتك التي تشعرنا دوماً بعزة المسلم وأنفة العربي وشموخ الوطن ودمت عزيزاً يا وطني ودامت رايتك خفاقة في كل المحافل الدولية وسلمت لنا أيها الرمز الأبي والقائد الفذ ومع إشراقة كل فجر صادق في أفق هذا الوطن المبارك يتجدد منا الولاء ويتقدم فيه البناء وتتوثق الأواصر ويشتد الساعد وإلى لقاء والسلام.