ذات انفعال صحفي وحماسة تكاد أن تكون متهورة جداً.. أعادتني إلى أيام الرهاق السياسي لشباب الأمة في الستينات والسبعينات الميلادية من القرن المنصرم حيث كنا نتدخل في أي موضوع يحدث في الوطن العربي بشكل خاص والعالم بشكل عام. ففيما يحدث في الوطن العربي كنا نرى أن (تدخلنا) -واجب قومي- تمليه علينا عروبتنا (وحدة اللغة والدم والمصير)، ولذلك فإن من يتقاعس عن هذا التدخل بيده أو بلسانه أو بقلبه وذلك أضعف الإيمان مستخدمين التدخل ب(اليد) لرفع قبضتها في المظاهرات فقط واللسان بما نهتف به أو نكتب ما يقوله على الورق، أو الشجب بالقلب، ولكن بصوت مسموع، أقول كنا نعتبر من يتقاعس عن ذلك هو (جبان، انهزامي، متخاذل، خائن، وذنب استعمار).
أقول إنني في ذات الانفعال الصحفي الذي أعادني إلى تلك الأيام -لا أعادها الله- كتبت في الشهر الماضي موضوعاً حماسياً (تدخلت فيه بشأن بلدين عربيين (شقيقين)- أحبهما بشكل خاص كما أحب وطني - ومن منطلق المحبة الكبرى والحرص الشديد و(أصداقهما) القول لأنهما في الوقت الذي يتعرضان فيه لتهديد خارجي (مقيت) فإن شعبيهما منشغلان بما يضعفهما حقاً. بينما بعض وسائل الإعلامه تنحدر إلى الدرك الأسفل من الخطاب السوقي الخطر، وعلى اللغو الفارغ الذي يسوّقه عليه (بعض) المنافقين الكذابين، وهذا اللغو لا يغني ولا يسمن من جوع في زمن الانهيارات الاقتصادية التي وصلت (هزّاتها) إلى أطراف هذه المنطقة ولم ننتبه بعد (!!).
أقول إنني في ذلك الانفعال الحماسي الحريص و(المحب) لهذين الشعبين العزيزين، الغاليين على القلب تناولت أوضاعهما المحلية بطريقة حادة تشير إلى خطورة تلك الأوضاع في حال استمرارها على ذلك المنوال الذي أشرت إليه، وكان من المؤلم جداً أن تفتيت الوحدة الوطنية لهذين البلدين من ضمن أهم (أهداف) العدو الخارجي الذي يتهدده، المهم أنني حينما أرسلت هذه المخاوف التي تعتصر القلب على شعبي البلدين ضمن مقال حار وحاد يعبر عن (حرتي) الخاصة كما يقول أهلنا في هذين البلدين، أخذت (أهوجس) ليومين متتاليين قبل النشر خوفاً من أن يأتي أحد الجهلة من أحد البلدين أو كليهما ويقول لي بغباء مطبق ومطلق وأنت (وش دخلك؟!) ثم يشير عليّ (نقمة الغوغاء) التي لا تدرك (ناصحها من صافعها) وبذلك يلوثون كل مسيرتي (الثقافية والإعلامية) التي نذرتها لتكريس الوطنية وزراعة المحبة والدفاع عن الجمال مهما كان ومحاربة القبح بأقصى ما استطيع.
بالطبع وأنا مؤرق بتلك الهواجس صدر عدد الجريدة التي كتبت فيها ذلك المقال. وكم كان فرحي كبيرا حينما وجدت أن أخي الأكبر رئيس التحرير خالد المالك -حفظه الله- قد شطب ثلث المقال وخفف أو بالأصح (لطّف) وشذب وهذّب بعض المفردات الحادة مما جعلني أقفز فرحاً وأهتف (عاش أبو بشار) كما كنا نهتف في ذلك الزمن التعيس لأي رئيس يقول مفردة حادة واحدة عن العدو حتى ولو كان يكذب علينا (!!).
يبقى القول أخيراً: أرجو أن تسجل صحافتنا العربية هذا السبق التاريخي لي كأول كاتب يُحيي ويشكر رئيس التحرير لأنه (شطب له) بدلاً من أن يشتمه لأنه ثبت لي فعلا أن رئيس التحرير بحكمته أحياناً هو بمثابة صمام الأمان لكتّابه. وأرجو هنا أنني لم أقل شيئاً عن ذلك الموضوع موضع الشطب (!!).