شهدت المملكة مؤخراً تسجيل نجاحات غير مسبوقة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بالمملكة، وهي جهود ينبغي أن تحمد عليها الهيئة العامة للاستثمار التي أدارت برامج ناجحة قادت إلى الاستحواذ على المرتبة الأولى من حيث أعلى التدفقات الاستثمارية الواردة على مستوى الدول العربية برصيد إجمالي وصل إلى 428.6 مليار ريال في نهاية عام 2008م. إلا إنه مع هذا الإنجاز الكبير، فقد ظهرت مخاوف حدوث مزاحمة حقيقية أو ربما إحلال لاستثمارات أجنبية محل استثمارات محلية قائمة نتيجة التسهيلات الكبيرة والمزايا التحفيزية غير العادية التي نجحت الهيئة في تقديمها للمستثمرين الأجانب.
ولكي نتعرف على ماهية المزاحمة والإحلال بداية لابد من تحديد مفهوم الاستثمار الأجنبي المباشر.. حيث يعرف الاستثمار الأجنبي المباشر بأنه عبارة عن انتقال رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في الدولة المضيفة بشكل مباشر من خلال العمل في صورة وحدات صناعية أو زراعية أو تجارية أو إنشائية، وذلك بدافع الربح الذي يعتبر هو المحرك الأساسي لهذا الانتقال. ويمتلك الاستثمار إيجابيات عديدة، أهمها إتاحة المزيد من فرص التوظف ونقل التكنولوجيا والمساهمة في نمو الناتج المحلي وغيرها. إلا أن هذا الانتقال قد ينجم عنه سلبيات أو مخاطر، من أهمها ما قد يتمخض عنه من مزاحمة للاستثمارات المحلية أو الإحلال محلها.
ويمكن تعريف مصطلح المزاحمة بأنه منافسة غير عادلة نتيجة حصول المستثمرين الأجانب على مزايا ربما تفوق المقدمة فعلياً للمستثمرين المحليين، بما يؤدي إلى تزايد قدرة المستثمرين الأجانب على منافسة المستثمرين المحليين، وبالتالي تمكينهم من استقطاع جزء من أرباح المستثمر المحلي لصالح المستثمر الأجنبي. أما الإحلال فإنه يحدث عندما تتزايد فجوة المزايا والحوافز التي يحصل عليها المستثمر الأجنبي عن تلك المقدمة للمستثمر المحلي، بشكل يؤدي إلى دحر المستثمرين المحليين وإحلالهم بالأجانب.. وبالطبع فإن المزاحمة هي المصطلح الأكثر احتمالاً.بداية لابد أن نذكر أن هناك جدلاً واسعاً حول طبيعة وحجم المزايا والحوافز المقدمة للمستثمرين الأجانب، والتي على رأسها مراكز الخدمة الشاملة التي نجحت في إطلاقها هيئة الاستثمار، والتي تخدم المستثمرين الأجانب بكل نجاح.. ويبدو أن هذه المراكز غير متاحة بشكل كامل لخدمة كل المستثمرين المحليين رغم أنها متاحة جزئياً لخدمة شرائح معينة منهم أو في مدن ومناطق معينة.
إن موطن القلق في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشرة تتأتى من تدفق رؤوس أموال صغيرة أو متوسطة لا تقدم قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني، بل تستنفد موارد وفرصاً استثمارية كان أجدى أن تقدم للشباب السعودي، إن وجد المرشد والدليل لكيفية اقتناصها. وتزداد المخاوف عندما نعلم أن الشريحة الكبرى من هذه التدفقات تتأتي من قبل مقيمين كانوا يديرون شركات سعودية لصالح كفلائهم كمديرين تنفيذيين فاعلين لفترات طويلة، وما أن يختلفوا مع كفلائهم حتى يفكروا في التحول من وظائفهم كمقيمين إلى مستثمرين.. ورغم أن نظام الهيئة قد قنن العديد من الضمانات الكفيلة لضمان جدية المستثمرين الأجانب، إلا أن النظام في أساسه تحفيزي ويسعى لتسهيل الاستثمار الأجنبي، وبالتالي فهو سائر نحو مزيد من التبسيط الذي أصبح يسهل انتقال وتحول المقيم إلى مستثمر خلال فترة قصيرة قد لا تتجاوز شهراً من تاريخ البدء.
فبناء شركة استثمار أجنبي في القطاع الصناعي مثلاً قد تتطلب في «جوهر الأمر» بضعة شهادة من الدول الأم بممارسة المهنة وتأجير «مليون ريال» لفترة لا تتجاوز بضعة أسابيع، وعليه يكون من الممكن إنشاء شركة ذات مسئولية محدودة مثلاً. وهؤلاء المتحولون بصدق هم خبراء في السوق المحلي، وغالباً ما ينجحون نجاحاً باهراً لدرايتهم التامة بالسوق.. بل وفي الغالب ما يذهبون لبناء منشآتهم الجديدة في ذات مواقع المنشآت التي كانوا يعملون بها، وينافسونها بكل قوة، وبخاصة أنهم يعلمون كافة أسرارها الخفية.
وحسب تقرير حديث صادر عن هيئة الاستثمار (A Statistical Analysis of FDI 2008)، أشار التقرير إلى أن هناك ما يناهز 60 شركة تعتبر من كبار الشركات الأجنبية بالمملكة، إلا أن التقرير لم يحدد مقدار مساهمتها في إجمالي رصيد الاستثمار الأجنبي بالمملكة.. ولكن لو أخذنا بالطبع مسميات هذه الشركات ومدى شهرتها (تضم شركات نفطية وبتروكيماوية وشركات كهرباء واتصالات وغيرها) لأدركنا أن مساهمتها في إجمالي رصيد الاستثمار الأجنبي بالمملكة لن تقل عن 30 إلى 50%.. وعليه، فإن نسبة ليست صغيرة من الشركات الأجنبية الوافدة تعد شركات ذات رؤوس أموال صغيرة إلى متوسطة. إن البعض يقلل من أهمية المزاحمة ما بين الاستثمار الأجنبي والمحلي، تحت اعتبار أن عدد المنشآت الأجنبية لا يزال صغيراً مقارنة بعدد المنشآت المحلية، إلا أن هذا الأمر غير كاف للقول بعدم أهمية أثر المزاحمة.. بل إن هذه المزاحمة محتملة بشكل قوي داخل القطاع الصناعي الذي وصل عدد التراخيص الأجنبية العاملة به حتى نهاية 1428هـ إلى حوالي 2122 منشأة، منها حوالي 1376 منشأة أجنبية 100%.. ولنسأل كم عدد المصانع المحلية، نجد أنها تصل إلى حوالي 4030 حسب آخر إحصائية لوزارة التجارة.. وبالتالي فإن عدد المنشآت الصناعية الأجنبية إلى المحلية يصل إلى حوالي 53%، أي أن الاستثمارات الأجنبية أصبحت معنوية وقادرة على مزاحمة المنشآت الصناعية المحلية.
لكل ذلك، فهناك حاجة ماسة لتقصي حالات المزاحمة والإحلال ما بين الاستثمار الأجنبي والمحلي وتداعياتها الحقيقية، للتخفيف من حدتهما في قطاع الاستثمار الأجنبي عموماً، والمنشآت الصغيرة والمتوسطة الوافدة خصوصاً.
Hassan14369@hotmail.com