تعد ثقافة المؤسسة مجالاً واسعاً ومكوناً أساسياً من مكونات الأمن الوطني. ولا غنى عن تشجيع القادة الإداريين وتثقيفهم ليكونوا على دراية تامة بمفاهيم هذه الثقافة ومستوياتها وتأثيرها البالغ في وحدة مفاهيم العمل.
وفي تحقيق قيم وظيفية رفيعة. وحيث قدمت المؤسسة العسكرية العالمية الكثير في المجال الصناعي, فإن في مكتبتها الفكرية والتنظيمية رصيداً متراكماً.
ويعتبر علم وفن الحرب بمكملاته الفكرية والثقافية عالماً واسعاً يستحق الاستكشاف وتسليط الضوء في أكثر من مجال, لما له من تأثير في حياة الناس. وتناقش هذه المقالة جانباً محدداً في فن القيادة العسكرية الميدانية والإدارية؛ وتركز على المستوى الأصغر, في المؤسسة العسكرية. ولن يجد القارئ في مضمونها فرقا كبيرا بين المفاهيم العامة للقيادة مدنيا أو عسكرياً؛ فهما تنطلقان من أسس وخصائص فكرية وأكاديمية مشتركة.
ولا نهدف في هذه العجالة إلى تحديد إطار شامل لمعنى ومكونات فلسفة القيادة، فذلك أمر يحتاج إلى إطالة وكثير من التفاصيل. ولكنّ, ما نطرحه هنا يمثِّل أنموذجاً موجزاً يُعرِّف (فلسفة القيادة) وأهميتها, ويشرح بعضاً من عناصرها الرئيسية, التي أعتقد - من وجهة نظري الشخصية - بأنها ذات أهمية قد لا تكتمل فلسفة القيادة من دونها؛ وهو ما سوف أوضحه في السطور التالية.
هنالك أكثر من تعريف لفلسفة القيادة, وجاء في كتاب تطوير فلسفة القيادة لكلية القيادة والأركان العامة الأمريكية, 1992م: (تعتبر فلسفة القيادة مبادئ عامة تحكم فكر وسلوك القائد). وتعريف آخر ورد في كتاب (أسرار قيادة التنظيمات: مشروع دراسة عسكرية), للعقيد لاري سميث, كلية الحرب بالجيش الأمريكي, 1989م. وقد شرح في هذا التعريف فلسفة القيادة على أنها: (مجموعة متشابكة من الخطوط المرشدة، أو الخطط التي يبين من خلالها القائد (كيفية) إنجاز الوحدة لمهمتها تمهيداً لتحقيق الهدف المرسوم في المدى البعيد).
وهنالك في الغالب مستويات تنظيمية يمكن أن تحدد بثلاثة, حسب حجم المؤسسة/ المنظمة مجال الاهتمام. فالمستوى الأكبر تنظيما له مكونات قيادية عليا تمسى (ثقافة المؤسسة/ المنظمة أو الجيش), وفي المستوى الأوسط تسمى (مناخ القيادة), وعند المستوى القيادي الأصغر في المؤسسة العسكرية, وهو ما يوازي تنظيم لواء أو أقل, فإنها تسمى (فلسفة القيادة). فالمؤسسة ذات التنظيم الكبير أقدر على تكوين ثقافة شبه ثابتة, ولها تأثير بارز على منسوبيها. وتعتبر المؤسسة المتوسطة التنظيم ذات ثقافة أقل ثباتاً وتأثيراً, ولذلك تشبه بالمناخ الذي يتحول بفعل المؤثرات. وأما المؤسسة الصغيرة تنظيما فإنها تتأثر بشخصية القائد المباشر ومدى تأثيره انطلاقا من (فلسفته في القيادة والإدارة). ويعتبر تغيير القادة والمدراء في التنظيمات الكبرى والوسطى, أقل تأثيراً على المنسوبين منه في المستويات الصغرى؛ التي يتمكن فيها كل قائد من وضع بصمته الشخصية فيتأثر الجميع نسبيا بذهاب أو قدوم القادة والمدراء.
ومن يقارن بين مؤسسات مدنية أو عسكرية, متشابهة في حجمها أو مجالات عملها, يمكن أن يلمس فوارق كبيرة بين منسوبيها. هذه الفروق في ثقافتهم ومهنيتهم ومظاهر انضباطهم, تعزى في الغالب إلى تأثير ثقافة المؤسسة الكبرى, ومقومات المناخ الإداري أو القيادي على المستويات الوسطى, وكذلك فلسفات القادة والمدراء المباشرين في المستويات الصغرى. وتجدر الإشارة هنا, أن القادة والمدراء في المستويات الوسطى والصغرى, يفترض أن يستمدوا رؤاهم وفلسفاتهم من الأطر العامة لثقافة القيادة العليا, وان لا يغردوا خارج (رؤية) مؤسساتهم.
ومن هذا المنطلق, فليس هنالك من الواجبات في وقت السلم ما هو أكثر أهمية للقادة من سعيهم نحو تطوير احترافهم العسكري، كجزء حاسم من تحضيرهم لخوض الحرب القادمة وكسبها. والقيادة الفعّالة هي التي تجلب النصر، باعتبارها أهم عناصر القوة في أرض المعركة. فالقيادة الفعّالة تنجح في تحديد الغايات، وتضع التوجيهات الصائبة، وتوجد الحوافز. وليس هنالك من أسباب الفشل, أو عوامل النصر, ما يفوق التحديات القيادية في الأهمية. فعندما تشترك الوحدة في عمليات حربية - بغض النظر عن مدى كثافتها - فإن درجة التفاعل بين القيادات والمرؤوسين فيها، ثم الحالة التي يصبح عليها المناخ القيادي سلباً أو إيجاباً، إنما يعكس تاريخ الوحدة وحالتها في زمن السلم. فبقدر ما يستثمر القادة مهاراتهم القيادية زمن السلم, بقدر ما يستطيعون مواجهة الظروف القاسية, التي تفرضها عليهم الأحداث الحربية والأزمات الأمنية المتلاحقة.
وتعد (فلسفة القيادة) واحدة من أبرز أدوات القادة المباشرين، التي إن أحسن القائد استخدامها فإنها سوف تكون عوناً له وسبباً في تسنُّم ذروة التفوق الميداني والإداري. وإنني من الذين يعتقدون أن أية مؤسسة - سواء كانت عسكرية أو مدنية - لا تمتلك خطوطاً إرشادية ومبادئ توجِّه نشاطاتها نحو تحقيق الهدف النهائي، هي مؤسسة محكوم عليها بالفشل. ومن ثم فإنه يتعين على القائد أن يحدد فلسفته القيادية لتشتمل على عدد من العناصر الأساسية التي يستطيع بموجبها أن يوفر مناخا قيادياً مناسبا؛ يكون سبباً في المضيِّ بالمرؤوسين وآليات تنفيذ مهامهم وممتلكات وحدتهم في المسار الصحيح نحو تحقيق أهدافها.
وانطلاقاً من أهمية دراية المرؤوسين بطبيعة الواجبات والأعمال الموكلة إليهم، ومعرفتهم بشخصية قائدهم ومقاصده وتوجيهاته, ومدى تفكيره في إدارة أعمال الوحدة وتحقيق أهدافها، فإنه يحسن بالقائد أن يصدر نشرة مكتوبة متضمنة فلسفته القيادية. كما يوضح القائد الإجراءات الكفيلة بفهم فلسفته وإيصالها إلى جميع المرؤوسين, عبر التسلسل القيادي لضمان اطِّلاع المرؤوسين عليها واستيعابها. ثم يحدد القائد أساليب المتابعة لضمان جعل هذه الفلسفة آلية انسجام ووسيلة نجاح في وحدته ليتحقق المستوى المقبول من وحدة المفاهيم بين فريق العمل الواحد.
وكثير ممن من تحدثوا عن فلسفة القيادة العسكرية حاولوا تحديد محتوياتها أولاً، فقالوا إنها تحتوي على أهداف وأولويات محددة، إضافة إلي التزام مؤكَّد بأن العمل في زمن السلم يرتبط ارتباطاً مباشراً بالمهام في وقت الحرب. وقد أجمعت البحوث المستندة إلى مقابلات عدد كبير من القادة بأنهم ينصون مباشرة على العناصر التي تجعل لكل منهم فلسفة متكاملة، ومن تلك العناصر التي أكدوا على أولويته, ما يلي:
المهمة، الأهداف، خطط تنفيذ الواجبات، مستويات الأداء، الأولويات، الأعمال أو القضايا الأكثر أهمية لدى القائد، نظام تدفق المعلومات، النشاطات التي تؤدي إلى نتائج ممتازة، نظام تقييم وتقويم الأداء، القيم، الاستقامة، الشخصية، الصدق، افتراضات عن الطبيعة البشرية، موجز عن أهمية روح الفريق، نظام المثوبة والعقوبة، تاريخ الوحدة. وعلى ضوء محتوياتها المذكورة, فإن فلسفة القيادة هي المجال الصحيح الذي يستطيع القائد أن يقول فيه: (هذه هي الأشياء التي أعتقد فيها وأدافع عنها، وتلك هي الأشياء التي لا أدافع عنها قطعياً)؛ كما أشار إلى ذلك مايك جاي في كتابه ملفات فكرية.
mabisak@yahoo.com