Al Jazirah NewsPaper Tuesday  04/05/2010 G Issue 13732
الثلاثاء 20 جمادى الأول 1431   العدد  13732
 
الحبر الأخضر
فلسفة النوايا بين هجرة المواطن وتهجير الوطن
د. عثمان بن صالح العامر

 

جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوايا ضارباً المثل بالحدث الأصعب في حياة الإنسان «الهجرة» التي هي في اللغة الانتقال من موطن الإنسان الأم إلى بلد آخر هو فيه غريب، مبيناً في ذات الوقت أن «لكل امرئ ما نوى»، ومقسماً الناس -كل الناس- حين قيامهم بهذا الصنيع الصعب -الهجرة- إلى ثلاثة أصناف:

صنف يترك موطنه الذي ولد فيه وعلى أرضه نشأ وترعرع مهاجراً إلى أرض الله الواسعة، والمحرك الأساس والمنطلق الأول والركيزة الأهم والباعث الحقيقي لهذا الفعل محرك ديني صرف، سواء أراد هو أن يضمن سلامة دينه ويهرب عن واقعه الذي هو فيه، أو كانت نيته أن يربي أولاده في بيئة إسلامية صحيحة ويلحقهم بمدارس تعمل على صلاحهم واستقامتهم والتزامهم بالمنهج الوسطي البين، أو ليتمكن هو ومن يعول من أداء العبادة في المسجد بكل أمن وطمأنينة وعلى الوجه الصحيح، وربما أرد الأجر الأكثر في مكة والمدينة، والمحصلة أن هذا اللون من الناس ينوي «إصلاح دينه» ولا ينفي ذلك أن يأتي تبعاً ما يصلح دنياه ويلبي رغباته ويشبع شهواته في الإطار الشرعي الضابط.

وآخر يترك موطنه من أجل مصلحة دنيوية «دنيا يصيبها» سواء تمثلت هذه الدنيا في تجارة يكتسبها أو منصب يتسنمه أو علم يحصل عليه من أجل الدنيا ليس إلا، وهذا يقف على أرضية تختلف عن الأولى اختلافاً جذرياً فهو ينطلق في الأساس من أجل إصلاح دنياه ولا مكان في قلبه للدين وإن كان ينتظم في صفوف المسلمين ويعيش بين ظهرانيهم، إذ أن تفكيره وحساباته وتخطيطه وعلاقاته وولاءه بل حتى ما يسديه من نصح لولي الأمر وما يسطره من حرف ينحصر في غاية واحد، منها البداية وإليها المنتهى ألا وهي صلاح الدنيا ولا محل في أطرواحاته واقتراحاته للدين لا من قريب ولا من بعيد، بل ربما وظف الدين من أجل المصالح الدنيوية ووقف عند المتشابه لمرض في قلبه وهوى في نفسه وطمعاً في زيادة ما عنده من مال أو جاه أو حظوة ومنصب.

أما النية الثالثة فهي تنبعث في داخلنا لتلبية رغبة ذاتية متقدة حتى وإن كان فيها خسارة دينه «النية الأولى» أو دنيوية «النية الثالثة»، فهو يعقد عزمه لترك موطنه الأساس من أجل إمرأه «إشباع الرغبات الذاتية»، وهذا أشد الأنواع جرماً في حق نفسه أولاً ثم في حق مجتمعه ومن حوله، فالمحرك لديه شهوات آنية سرعان ما ينطفئ لهيبها وتخلف وراءها أكوام الرماد ولظى النار.

هذه هي النوايا التي نضمرها بين حنايانا حين سعينا في الأرض حتى وإن كان فعلنا الظاهر أقل بكثير من هجرة الأوطان وما ماثلها من أعمال ضخمة لا ينبري لها سوى العظماء الذين لم ينساهم التاريخ.

مثل هجرة المواطن لوطنه بل أشد محاولة تهجير الوطن بأكمله من قبل الكتاب والمفكرين الذين يسعون جادين هذه الأيام على وجه الخصوص وبكل الطرق والوسائل لرسم معالم وخطوات وآليات التهجير مستنين ومستدلين بفكر ومنهج من سبق من الصالحين المصلحين الأحياء منهم والميتين!، فهم بنواياهم أصناف ثلاثة، هناك من يكون المحرك له والدافع لخوض معركة الكتابة التنظيرية المصلحة الدينية، ولكنه قد يشطح كثيراً في استنتاجاته وتحليلاته وتوجهاته الفكرية متأثراً بغيره ممن يسممون الأفكار ويخربون البنيان، يخرج هذا الغّرُ عن جادة الصواب ومنهج الحق ويركب موجة الغلو والتطرف ومن ثم يضرب بمعالم الوسيطة التي ترسخت في موطنه الأم عرض الحائط فيكون من خلال ما يكتبه ضمن صفوف جند الباطل ومن بين زمرة الإرهابيين المفسدين للأوطان المزهقين للأروح العابثين بالدين وللأسف الشديد، وهناك من يريد تهجير الوطن لمصلحة دنيوية، ولذا يقرأ الواقع برؤية مادية غربية صرفة، وينظر إلى الأحداث بعقلية السوق «عرض وطلب»، ليس في باب الاقتصاد فقط بل في السياسية والفكر والفن والإعلام والاجتماع، بل وحتى الفقه والتشريع، أما الثالث من الكتاب فالباعث لديه إشباع رغبات ذاتية تتحرك في داخله فتدفعه لتسطير حروفه وإطلاق شعاراته والمنازلة والكفاح في ساحة الوطن من أجل التهجير والتغيير، فالتغيير في قاموسه ضرورة من ضروريات الحياة، ليس مهماً في نظره إلى أين سيكون التغيير، ولا كيف سيتم ولا حتى متى، بل الواجب أن نتحرك من أجل أن يقال إننا أحدثنا تغييراً تطلبته المرحلة وأجبرتنا عليه عجلة الزمن في عصر العولمة الصعب. هذه هي النوايا وهي في القلوب ولا يعلم ما في القلوب إلى الله ولكونها هي محل المؤاخذة والحساب قبل العمل الظاهر الذي هو مدار الحكم والمسألة من قبل البشر كان من الواجب أن يقف كل كاتب ومفكر مع نفسه حين يمسك بقلمه أو يفتح جهازه.. تُرى ما الدافع الذي جعلني أطرق هذا الموضوع الحساس والهام، خاصة عندما يكون في صلب بناء وطننا المعطاء المملكة العربية السعودية حتى لا نكون -لا سمح الله- في يوم من الأيام معاول هدم لهذا الكيان العزيز على قلوبنا، ورسل خراب لمن يقرؤون حروفنا، ويكون الفجر الذي رسمنا معالمه للأجيال القادمة فجر كاذب وليل حالك وأزمة بل أزمات متتابعة نهايتها الفناء.. وإلى لقاءٍ والسلام.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد