أعلنت إحدى الجهات الدعوية بأنها قامت بتنظيم 689 عملاً دعوياً خلال شهر واحد فقط، وفي مدينة واحدة فقط، وقد استوقفتني هذه الأرقام الكثيفة التي تنصب على مدينة واحدة ليست من المدن الكبرى، أي ما يربو عن 22 نشاطاً كل يوم، بالشكل الذي جعلني أتساءل من هم الفئة المستهدفة: هل هم كفار قريش؟ أم أنهم آكلو لحوم البشر الوثنيين؟ أم أقزام الأبورجيز الطوطمين في أستراليا؟
لأننا لابد أن نفتح أشداقنا دهشة عندما نعلم أن هذا الزخم الدعوي موجه لسكان مدينة محافظة يرفع بها الأذان خمس مرات في اليوم، وتردفه الفرائض والسنن، مدينة خالية من المنكرات والحانات، في جو اجتماعي يتسم بالمحافظة والورع. كل كثافة لابد أن يتبعها هدر على مستوى ما. فالنهوض بالبنية الفكرية والثقافية للإنسان لا تقتصر على زخم الخطاب الوعظي فقط، ولكنها بالتأكيد تعود إلى كيفية تحويل مجموع المفاهيم والقيم في ذلك الخطاب إلى سلوك يومي ثابت وأصيل في بنية المجتمع الثقافية، وما عدا ذلك سيدخل في باب (لغو الكلام).
بل إن كثافة الخطاب الوعظي قد تؤدي لاسيما في مراحل عمرية معينة إلى النفور والرغبة في التمرد.
فالشاب الذي يستنهض الخطاب الوعظي فيه سبل الورع والعفة وفضائل الحلال أيضاً بحاجة إلى جانب هذا بل قبله من يؤهله ويدربه ويطور قدراته ليصبح قادراً على المنافسة بعيداً عن الشبهات في سوق عمل بات شرساً ومتطلباً.والفتاة التي يخوفها الإرشاد والوعظ عبر محاضرات مكثفة من مخاطر الدش والإنترنت، لابد أن يخبرها بأن الإنترنت مثل العصا السحرية التي تجلب لك العالم بين يديك ويبقى دورك كيفية تجيير هذا الكنز المعرفي وتحويله إلى اقتصاد معرفي يصب مردوده في نموك ونضجك ودورك كفرد في اقتصاد الوطن.
تلك الكثافة لابد أن تخلق نوعاً من الانفصام الجمعي بين لغة الخطاب الوعظي المثالية والمنبتة عن محيطها وواقع عصرها، وبين واقع يتبدل وتتغير شروطه بشكل سريع ومطرد، وبالتالي من الممكن أن يخلق ذلك الانفصام شخصيات شابة قلقة ومضطربة وغير قادرة على التحليق في سموات الإبداع والابتكار، لأن الوعظ بمادته المثالية من طبعه أن يكثف أحساس الناس بالخطيئة والدونية وتلاشي الحلول الدنيوية مقابل الأخروية.
22 نشاطاً في اليوم إذا حجبنا ساعات الأكل والنوم والراحة، فستكون النتيجة إما أن المدينة قد تحولت إلى مدينة يقطنها ملائكة لا تعرف الخطيئة لهم درباً.... أو أن هناك كماً وافراً من الهدر كان من الممكن أن يجيَّر ويستثمر لمسارات مفيدة.