ليس بالجديد أن تكتشف إحجام البنوك ومؤسسات التمويل المتعددة إن كانت حكومية أم أهلية عن تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة الناشئة، فالأمر قائمٌ منذ أكثر من عقدين ونصف مضيا من عمر الاقتصاد السعودي، وليس كما قد يعتقد البعض أنه جاء وليدة الأزمة المالية العالمية الأخيرة. إذ كم من المشاريع الصغيرة الطموحة انبثقت عن إبداع فكري متميز لدى شبابنا وبناتنا طوال الثلاثة العقود الماضية، ولم ترَ النور والحياة منها أكثر من 0.1 في المائة! أما بقية (الأحلام) الطموحة فقد وُئدتْ في القبر قبل أن ترى المهد! وما استفاقة المجتمع والإعلام المحليين على (مفاجأة) مدوية من خارج الحدود، حول استقطاب الاهتمام العالمي لمنجزات أحد أبناء أو بنات هذا الوطن في الخارج، إلا مؤشر ضئيل بين طوفانٍ من المؤشرات الواضحة على ضآلة الدعم والمساندة لتلك الشرائح الشابّة والطموحة. إنني حسبما وقفت عليه من أفكار ومشاريع في دائرةٍ ضيقة انبثقتْ أحلاماً في مخيلة شرائح شابة سعودية، أؤمن تمام الإيمان أنها لو رأتْ النور والحياة طوال سنواتٍ مضتْ، لكنّا جميعاً نقف أمام بيئةٍ للأعمال المحلية تختلف جذرياً عما نواجهه اليوم؛ البيئة الراهنة قد تكون نجحتْ في جزءٍ من أعمالها، غير أنها فشلتْ تماماً في أجزاءٍ أخرى لا يُستهان بها، لعل من أبرزها أنها لم تستطع القفز -ولو بنسبةٍ أقل من درجة المقبول- بالاقتصاد الوطني على طريق تنويع القاعدة الإنتاجية، حيث لم تتجاوز مساهمة الصناعات التحويلية في الاقتصاد منذ 1970م إلى اليوم نسبة 12 في المائة! كما أنها لم تستطع استيعاب مخرجات معاهد التدريب والتعليم العام والعالي لدينا المعدودين بالآلاف، بصورةٍ ساهمتْ في زيادة معدلات البطالة أكثر من تخفيضها، بل العكس شهدناها تستوعب أكثر من 7.5 مليون عامل من خارج الحدود، أغلبيتهم لا تصل مؤهلاته إلى نصف مؤهلات شبابنا وبناتنا، بل إن شريحة كبيرة من تلك العمالة تفتقر إلى أدنى الشهاداتْ! هذا عدا التركّزات العالية في بعض النشاطات وصلت بها إلى الاحتكار، ونسف أبجديات المنافسة، بل لقد تورّط بعض من تلك المشاريع القائمة اليوم في البيئة الاستثمارية والتجارية المحلية في جرائم التستر في العديد من قطاعات التجارة والخدمات، العنوان من الخارج (منشأة سعودية) وفي المحتوى تجد أن كامل العدة والعتاد والأموال أجنبية 100 في المائة! ولن أمضي في الحديث عما أصبح معلوماً لدى الصغير والكبير منّا، وما قد تنتهي به بعض المشاريع بعد أن أوشكتْ على الهلاك ليُقذف بها في سوق المال، بدل أن يتم تصفيتها وشطبها من الوجود!
القضية الرئيسة هنا، هي كيف لنا أن نعمل على فتح الطريق أمام المشاريع الصغيرة والمتوسطة الناشئة المحلية؟ كيف لها أن ترى الحياة وتتحول من مجرد حلم أو فكرة على الورق إلى مشروعٍ فعلي على أرض الواقع؟ كيف لها أن تستفيد بجدواها المالية والاقتصادية إن أثبتتها من فوائض المدخرات والأموال الوطنية، تلك الفوائض التي إن بقيت محلياً رأيتها تكرُّ وتفرُّ مضاربةً إمّا في سوق الأسهم أو في العقار، وإن لم تبق هنا خرجت إلى أروقة الأسواق العالمية على هدى وعلى غير هدى؟! كيف لنا أن نجمع ونحتضن شتات أحلام وطموحات شريحة الشباب السعوديين قبل أن تلفظ أنفاسها يأساً وكمداً؟ هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى كيف لنا أن نعمل خلق فرصٍ استثمارية حقيقية أمام مدخراتنا الوطنية؟!
أقترحُ أن يتبنى المجلس الاقتصادي الأعلى بما يشمله تحت مظلته من أجهزةٍ رسمية، مهمة وضع إستراتيجية تستهدف احتضان ودعم ورعاية وتهيئة وتنظيم عمل تلك المشاريع الناشئة، بدءاً من التمويل مروراً بالهيكلة والإدارة والتطوير وانتهاءً بوقوفها على أرض الواقع، لتصبح مؤهلةً للبقاء والحياة والتطور بموجب أدائها التشغيلي، وأن تساهم فعلياً في تنويع وتعزيز القاعدة الإنتاجية المحلية، وتساهم أيضاً في توفير فرص عمل كريمة للشباب والشابات العاطلين عن العمل. إن تبنّي ما يُمكن تسميته ب(بورصة المشاريع الناشئة) التي توفر البيئة النظامية الملائمة للالتقاء بين المدخرات والمشاريع الناشئة، أؤكد أنه قد يكون أهم الخطوات التي يُفضل أن تتبناها الإستراتيجية المقترحة أعلاه، كونها ستوفر البيئة المناسبة للجمع بين الأموال الوطنية للأفراد الباحثة عن فرصٍ استثمارية حقيقية من جهة، ومن جهةٍ أخرى تتبنّى الأفكار والمشاريع الطموحة المبتكرة من عقول الشباب والشابات السعوديين، التي ينقصها التمويل اللازم لتتحول إلى مشاريع حقيقية تعمل وتحقق ربحية لكلا الطرفين؛ الممول كشريكٍ مستثمر والشاب أو الشابّة كمطوّر وصاحب فكرة للمشروع! وماذا يمنع لاحقاً إذا توسعتْ نشاطات المشروع ونجحت في السنوات التالية أن تتحول إلى شركة مساهمة مفتوحة، يتم إدراجها في سوق الأسهم المحلية؟!
(بورصة المشاريع الناشئة) ليست بحاجةٍ إلى مليارات الريالات لتتحقق، وليست بحاجةٍ إلى دعمٍ مالي من أي جهةٍ كانتْ، إنها اليوم مجرد رؤية وحلم تطمح لأن ترى النور فقط تحت إشراف ورقابة رسمية، تستهدف توفير البيئة العادلة والعالية الشفافية والتنظيم من أجل الدراسة والتفاوض واتخاذ القرارات الاستثمارية المُثلى، تضمُّ تحت مظلتها الرسمية والمعلنة (مقدمي التمويل) و(الباحثين عن التمويل). قد يكون حافزاً لكافة الأطراف المعنية بهذا المشروع ممثلاً في (بورصة المشاريع الناشئة) أن أذكّرهم بمشروع (بنك الفقراء البنجلادشي)! الفرق الرئيس أننا بحمد الله في بلادنا العامرة بفضل الله لا نشكو الفقر، ولا نشكو فقر الفكر والشباب! والذكرى تنفع المؤمنين. إنه حلمٌ عظيم أسأل الله العلي القدير أن يجد قبولاً ودعماً من كافّة الأطراف المعنية، لا أرجو من وراءه ريالاً واحداً، إنما أرجو منه وجه الله عز وجل؛ وأن يصبح ماثلاً أمام أعيننا واقعاً مشرقاً بالنجاح والتقدّم، يساعد اقتصادنا وأصحاب الثروات الصغيرة والمتوسطة وأصحاب الأفكار النيرة من شبابنا، وأن تتكامل القدرات مع الفرص والعمل الجاد، لتتحول بتوفيق الله ثم بدعم حكومتنا الرشيدة ودعم أبناء الوطن المخلصين إلى واقعٍ تجتمع تحت قبته كافّة الأطراف المهتمة والمستفيدة، ولأن الحلم والحديث لا يزال في بدايته، سيكون للحديث بقية، والمجال مفتوحٌ على مصراعيه أمام الجميع للمشاركة، ولإثراء القضية بالمزيد من الأفكار والمقترحات، يُسعدني أن أتلقاها لجمعها وضمّها في ملفٍ خاص بها، ومن ثم نشرها باسم من أرسلها إليّ حسب الإيميل المرفق، والله ولي التوفيق من قبل ومن بعد.
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
me@abdulhamid.net