التوطين يعني التأصيل.. والتأصيل يخلق الانتماء.. والانتماء حالة دائمة وليست مسألة عابرة.. ويتسع مفهوم الوطن بالقدْر الذي يُمكِّنه من صهر مبادئ التأصيل ومعايير الانتماء في بوتقة التوطين، بحيث يمكنها أن تصب في دروب الحياة ونواحي المعيشة المتعدِّدة.. رؤية التوطين تعني الاستمرار والبقاء. نقول: توطين التقنية.. وتوطين العمالة، ونعني بالأولى نقل التكنولوجيا، من الغرب بالطبع، وإعمالها في الصناعات الوطنية فهماً وإدراكاً وممارسةً وتطبيقاً.. ونقصد بتوطين العمالة التركيز على توظيف العمالة الوطنية وتنميتها.. وفي كل حالة منهما نهدف إلى الوصول إلى التأصيل، أي الاستمرار والبقاء.. ولكن ألا يمكن أن تتعدى رؤية التوطين أو تتجاوز المنظور المادي للأشياء.. بمعنى، هل يُمكن أن نوطِّن السلوك؟ لقد فكرت في هذا المنحى كثيراً.. وتراقصت في فكري الأفكار تبحث عن وقفة من تعب التفكير، تتسابق معها علامات استفهام عديدة.. وأذكر أنه من فرط إعجابي بفكرة تحديد أسبوع للاحتفاء.. أو التذكير ببعض السلوكيات الاجتماعية في إطار التوعية العامة بها، مثل أسبوع المرور وأسبوع النظافة وأسبوع الشجرة، دعوت في مقال كتبته قبل عدة سنوات بتخصيص أسبوع للصراحة.. فكرة أسبوع الصراحة تنادي بأن نقتطع أسبوعاً من كل سنة، نحاول فيه أن نتحلى بأخلاق الصراحة.. وأخلاق الصراحة هي أن نقول الحق ونتَّبعه، ونبتعد عن النفاق والرياء والمواربة.. فكرة سهلة في عرضها.. لكنها صعبة في تطبيقها، بعد أن تمرَّغت الصراحة في وحل وآثام حياتنا اليومية.. والآن وبعد سنوات من طرح تلك الفكرة، أشعر بأن مساحة الأسبوع لا تحقق الهدف من الفكرة، والدليل واضح.. ففي أسبوع المرور تخف حوادث السيارات، وفي أسبوع النظافة تكون شوارعنا، وربما منازلنا، نظيفة، وفي أسبوع الشجرة نزرع أكثر من شجرة.. وبعد انقضاء الأسبوع يعود «الكتان زي ما كان»! وتعود «حليمة لعادتها القديمة»! وكأننا «لا رحنا ولا جينا»! هذا هو الواقع الذي ساقني إلى إعادة التفكير وطرح الفكرة من منظور التوطين ومفهوم الاستمرارية والبقاء، وهو المنظور الذي نحتاج إليه فعلاً.. مفهوم التوطين هو الممارسة الفعلية لمبادئ الوعي الاجتماعي الحقيقية، ونحن في حاجة إلى الوصول إلى هذه المرحلة، أو الدرجة من الوعي والسلوك الاجتماعي.. وهنا تمكن أهمية توطين الصراحة كسلوك اجتماعي عام.. والصراحة كسلوك اجتماعي تعني بكل بساطة أن نقول الحق، وأن نتجنب الكذب والنفاق والغيبة والنميمة.. هذا السلوك يجب أن يبدأ من الفرد نفسه حتى يصبح سلوكاً اجتماعياً عاماً.. وعندها سينعكس على كل المجتمع، وستكون له إيجابيات تخنق كل السلبيات التي يعاني منها المجتمع في فعالياته ومستوياته المتعددة.. ولا بد هنا أن نفرِّق بين مفهوم الصراحة ومفهوم المجابهة كطرفي نقيض في الكثير من معاملاتنا اليومية.. والتفريق هنا لا بد أن يتركز على مفهوم واضح للصراحة.. الصراحة أن تقول كلمة الحق.. ولا تخشى في قولك لومة لائم.. والصراحة مفهوم حضاري بنَّاء لا يعني هتك أسرار الناس أو إشاعة السوء، فقد أُمرنا بستر عيوب الناس وحفظ كرامتهم ومكانتهم وبعدم الجهر بالسوء.. الصراحة أن نبتعد عن الازدواجية في الشخصية بالقول الصادق الصريح، بأن تقول: هذه سبيلي وتكون مسؤولاً عن كلمتك.. ورُبَّ كلمة هوت بصاحبها سبعين خريفاً في النار.. ولسانك حصانك إن صنته صانك.. وإن هنته هانك.. هذه مبادئ الصراحة الخلاَّقة التي يجب أن نعمل على توطينها لنكوِّن مجتمعاً تسمو فيها الأخلاق وترتفع فيه درجات الإنسان إلى حيث كرَّمها الله عزَّ وجل في مكانها المتميِّز عن سائر مخلوقاته.. توطين الصراحة أن يتحدث المسؤول عن عمله بمسؤولية، وأن يفصح المواطن عن رأيه بمسؤولية، وأن نعيد مجتمعنا إلى ما كان عليه الأوائل عندما قال الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: أخطأ عمر وأصابت امرأة.. هو التوطين الذي نروم تحقيقه ونهدف إليه.. وهي مسألة تتطلب ممارسة يومية مستمرة، نصارع فيها أهواء النفس ونجاهد من خلالها لنروِّض أنفسنا على قول الحق واتباعه، هي مسألة تتطلب أن نتجاوز الكثير من الأخطاء التي نرتكبها في حق أنفسنا وغيرنا والمجتمع كله، وأن ننبذ الكثير من السلوكيات التي تعوَّدنا عليها، فخلقت في الكثير منِّا كيانات ازدواجية تقول غير الذي تعمل.. وتعمل غير الذي تقول.
رئيس (دار الدراسات الاقتصادية) - رئيس تحرير مجلة (عالم الاقتصاد) – الرياض