يا حكماء الأمة سأجيئكم هذه المرة بكلام منبلج كالصبح، أخاطبكم بلا أساطير ولا سرد مهترئ ولا وهم، سأناجيكم وخبايا الصدع في نفسي، ثمة أشياء تخيفني وتزرع فيّ الرعب، في أعماقي شيء، يتطاير بي كالأرق المزمن، أبحث ...
...عن أشياء ليس لها تلوث، الوجع يرهقني، والحزن يدميني، والقلق الأزلي يتوعّدني بالرماد، والحمقى في الفضاء يتقاطرون كالسرفات، يسكنهم العبث والدخان والغسق المضبب، يسلكون بنا أودية مخيفة، حاملين معهم وحي الرغبة الغجرية في التأويل والتهويل، متحدين بالوهم، لهم صوامع تسربلها أزمنه تمر عبر دهاليز الأحاجي، يبحرون ملتحفين بالبرد، إلى بقايا ماضٍ موغل بالطاعون، ليس لهم تفكير ولا تدبير ولا تبرير، لهم جذور ممتدة في التمادي، يتدحرجون كالتفاحة لعوالم سفلى، يتعرون لكن بغير حرص، يصطنعون الوجوه، تغريهم أطر الأشكال والحدقات، حركاتهم معلولة، يتقافزون خلف الأقنع، ليس لهم مرايا سوى بقايا بلور مكسور وزجاج مخدوش، منذ أزل يعبثون بأعمال غير واقعية وغير مكتملة وغير ذات نضوج، يتنفسون رئة الماضي التليد البليد محاولين إعادته بوصايا تشبه وصايا الكهنة، رائحة الدبق من فضائياتهم أزكمت أنوفنا، حتى صار ما بين الأرض والسحابة شيء كبير يشبه الحزن والرتابة، أمطرونا بالتراب والتصحر وعلمونا العطش، أخذونا إلى مصابات بعيدة، حتى أوقدوا كل مدارات الفضاء بخيوط من لهب ونار وألبسونا الأدوار، أعمالهم لا تثير الدهشة ولا البهجة ولا الذائقة، بل أعمال يلف بريق رونقها التراب الذي يعلو قامتها، يقرعون الطبول بشكل متواصل، وصخب يشبه انفلاق القنابل بددهم التعب وقلق الكسب وكمائن الخوف والظلام الطائش، ذهبوا بنا إلى نبش التراب، ومحاكاة ذاكرة شجيرات الأثل المتبقية على قيد الحياة، وبضعة حجاوي رمادية مبعثرة هنا وهناك، وأعشاش قبرات أضناها الاصطياد، أعمالهم عبقة برائحة دماء متيبسة قد أحالها الزمن الطويل إلى رائحة تنفذ إلى الرأس مباشرة، لينشروا لنا شريطاً مرئياً من الصور المتحركة عن معارك يتصاعد فيها التراب والرماد إلى عنان السماء، وتختلط فيه الرؤية بمشاهد الطعن العتيق وعقر الركب والصيحات عند الإغارة، وأطفال صغار يتسترون خلف الشجرات الفتية هرباً من الواقعة التي لا تنتهي، سفونا بالرمل وأعمونا بالتراب، وأخافونا بعظام بالية وإطلاقات وحراب صدئة، شرائط مسجاتهم مليئة بحك الصدور ومعبأة بالعنصرية ومكيسة بمؤن فاسدة، لها وجع العقارب ولسع الحيات ولدغ البعوض وأصوات الذئاب الجائعة، لهم تيه واسع وخيال شاحب وسحن داكنة، يزحفون بثقل نحو منعطفات التاريخ، لهم غرابة ولهم عجب، انهم يقفون على أرض سبخة، يحبون النبش في دهاليز الأحزان والمآسي التي حفظوها بعلب مبسترة، لهم ظلامية دامسة، يزيحون الستائر عن مكنونات الأشياء القديمة مع سبق الإصرار دون حيادية ولا مصداقية ولا ذاكرة دقيقة لكن بمكر وخبث وكذب متكرر، توجههم التقاط الأحداث من أفواه بالكاد تلفظ الحروف، لا يغمض لهم جفن ولا يأخذون قيلولة، يحاولون سحبنا من التمدد والاستطالة إلى صيرورة العدم، إنّ أشد ما استفزني في هذه القنوات العبثية، أنها تتحوّل بلحظه البرق إلى كومة سوداء من العنصرية والعفن الطبقي وتتبلور برامجها لتشبه بيوت الثكالى التي يقطع أنينها شغاف القلب وتثير دوامة الخوف والفزع على مصيرها الذي يشبه كوخاً خشبياً في لحظة هبوب رياح عاتية، لهم كآبة وجهين مختلفين ومتناقضين، لا يحملون الفرح، لكنهم يملكون جرحاً نازفاً ينشر الظلام والجهل والتخلف، لا يهم عندهم، المهم أن يوصلونا إلى بقعة غير ذات ضوء وليس لها بريق، عندهم القصائد لا تذوي، ولا تنتشي الذاكرة بعبق التاريخ الجميل الصافي النقي والحاضر الأبهر، إنّ لدى بعض هذه القنوات السقيمة أفكاراً مجنونة فارّة من عقال المخيلة، تسبح في مديات تصدع الرأس وتنسف التخيل، ننظر لها فنزداد ارتباكاً ونذهل حين نرى مشاهد الطرح بلا استدلالات فكرية وبقصة بلا تفاصيل، يا عقلاء الأمة إنني أطالبكم بأن تتحركوا وتنهوا علاقة بعض هذه القنوات الفضائية ذات العقلية المنحرفة بالفضاء، تلك التي تمكنت من مزج الألم باللون، والصرخة الدامية بانطباعات الحزن المر في قلوب زاد خفقانها، إنّ الانحطاط الذي بلغته بعض الفضائيات بلغ مداه حتى أصبح منطقة اشتغالي الدائمة لأنهم ينبشون القبور ويوقظون الموتى ويمارسون الخطيئة، إنّ بيننا وبين بعض هذه القنوات المزيفة خطاً فاصلاً لا يراه إلا أصحاب البصر والبصير أمثالكم، فأنتم بمثابة الماء للعطشان، وهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. فحولوا بيننا وبين طبولهم ومزاميرهم وتوجهاتهم السامة، خذونا بين عيونكم بعيداً عن الدهشة التي أيقظها الخراب الفضائي وأساطيرهم التي تحكي إمكانية الطيران على ظهر طير (!!) لا تتريثوا ولا تسترخوا وفق طقوس هادئة وناعمة وتراتيل خفيضة، بل الطموا غرور هؤلاء البعض من الفضائيات المقيتة وصيحوا في وجهها بأن تتخلّص من الرذائل والرغبات والطمع وفقدان المعرفة، وتتوجه إلى مسارات الأسلوب الصحيح والتفكير الصحيح والكلام الصحيح والجهد الصحيح واليقظة الصحيحة والتأمل الصحيح لبلوغ الهدف الصحيح، إنني أرى أصحاب بعض تلك القنوات يتهامسون ونظراتهم مصوبة نحوي لأني انتهكت حرمتهم وأفسدت متعة انعتاقهم، لكنني تجرّأت وقلت ذلك لأنّ كائناتهم البرتقالية إذا ما استمرت سوف تأخذنا إلى فوهة الجحيم، وفق خيالات مجنونة ليس لها نضوج فكري ولا تهذيب روحي ولا تنشيط يوسع دائرة المعرفة والاندماج مع الكون الحديث وتداخل الإنسان، يا حكماء الأمة أعطوا بعض هذه الفضائيات درساً حقيقياً نبيلاً، نعطيكم التصفيق والتهليل ونسكنكم حدقات العين والعقل والذاكرة.
ramadanalanezi@hotmail.com