عندما نكون في زيارات خارجية لكثير من البلدان في العالم، تعلمنا أن الحديث العام المحايد الذي يمكن أن نتداخل به مع الآخرين هو الحديث عن الطقس.. فهو موضوع محايد ومهم في نفس الوقت..
وهو من الموضوعات المحبوبة التي يمكن أن يشترك فيه أي شخص.. لاسيما أن الطقس هو هم يومي يواجهه الجميع صغارا وكبارا، رجالا ونساء.. وأخبار الطقس هي من الأولويات التي يحرص عليها أي إنسان قبل أن يتحرك من منزله أو فندقه أو عمله، لأن تداعيات الطقس تنعكس على أمور كثيرة جدا في حياة الناس، أولها اللبس الذي نرتديه، وثانيها طرق المواصلات التي نختارها، وآخرها النشاط اليومي الذي نقوم به..
الحديث عن الطقس يمكن أن يحدث أمام المصعد، أو في مقهى صباحي، أو صفوف الانتظار أمام وسائل النقل العامة.. أو في أماكن أخرى يتشارك فيها الناس، ويلتقون مع بعضهم البعض.. ويتجاذبون بعض الأحاديث، ويكون الطقس عادة هو الحديث الأول.. صحيح أن الطقس قد يكون مدخلا للتعارف بين الناس، ومعرفة أمور خاصة بهم في بعض الأحيان، ومناقشة أمور عامة في المجتمع.. وقد يكون وسيلة تعارف جيدة للتعرف على الأشخاص ومعرفتهم أو معرفة وجهاتهم أو نشاطاتهم.. وقد يكون الطقس وسيلة يعرف بها الشخص عن نفسه أو نشاطه أو وجهته أحيانا.. وفي كل الحالات يشكر الكثير من الناس مناسبات الطقس التي عرفتهم على بعضهم البعض.. وبنت بينهم صداقات حميمة أحيانا.. أو علاقات عمل مستمرة في أحيان أخرى..
وفي المقابل، وخاصة في مجتمعاتنا العربية والخليجية خاصة، فإن الطقس لم يكن في يوم من الأيام يكتسب أي أهمية للحديث بين الناس، إلا عندما تحدث كوارث طبيعية كبيرة.. أما الحالة اليومية التي يعيشها الناس فهي تستبعد الحديث عن الأحوال الجوية.. لأن الطقس هو وضعية متوقعة ومستمرة ولا نعيش أي اختلافات تذكر بين الفصول والسنوات.. ومن الطريف أن أحد الزملاء في الدراسة في معهد لغة إنجليزية قبل سنوات كان يتحدث عن الطقس في المملكة كموضوع تعبير، وقد حاول أن يكون طريفا في عرضه عن الطقس، حيث لم يجد شيئا يذكره عن الاختلافات الفصلية في أجوائنا السعودية.. ولكن الطريف أنه عندما سئل عن نشرة الأحوال الجوية في التلفزيون السعودي، ذكر أنها من أكثر البرامج بؤسا ومللا بالنسبة للمشاهد، فلا جديد بين يوم وآخر.. وأضاف هذا الزميل على سبيل الطرفة إلى أن التلفزيون السعودي لديه شريطان للأحوال الجوية، كل شريط يستمر العمل به ستة أشهر، شريط صيفي وشريط شتائي.. والتلفزيون يرتاح لأنه يعرض شريط الصيف لمدة ستة أشهر، وشريط الشتاء للستة أشهر الأخرى.. صحيح أن أحدا لم يصدقه لأنه ذكرها على سبيل المداعبة والطرفة، إلا أن الكثير من زملائه من السعوديين والعرب كانوا يصدقونه ويعلمون أن الطقس فعلا لدينا يتراوح بين الصيف الحار أو الشتاء القارس.. ويعلمون كذلك أن نشرة الأحوال الجوية هي من أكثر البرامج مللا في مجموعة كبيرة من البرامج المملة، ولكنها تحتل الصدارة في ذلك..
أما اليوم، فقد تغيرت الأمور وتبدلت، فأصبح الطقس هو الهم اليومي الذي نعيشه، وأصبح حديث المجالس، وموضوع الساعة.. ومن موضوع في ذيل قائمة الاهتمامات، إلى الموضوع الأول، والخبر الأول في وسائل الإعلام، وحديث الاتصالات وموضوع المنتديات ووسائل الإعلام الاجتماعي في الإنترنت وغيرها.. وأصبح الطقس هو العامل الأساسي في تحديد النشاطات اليومية للفرد والأسرة وترتيبات المجتمع.. وأصبحت المادة الإعلامية الأولى التي تثير النقاش والاهتمام بين الناس على اختلاف طبقاتهم.. وتحديدا أصبح الطقس هو الموضوع المهم في شريط الأخبار لشاشات التلفزة العربية والفضائيات الدولية..
لقد تولدت لدينا ثقافة جديدة لم تكن موجودة من قبل، فأصبح الطقس هو حديث الناس، ومدخل الحوارات، وسبيلا للنقاش والتعريف والتعرف بين الناس، سواء في أماكن عامة أو اجتماعات رسمية، أو لقاءات أسرية، أو غيرها من المناسبات التي يلتقي فيها الناس على كافة شرائحهم.. وأصبح الطقس هو العامل الأول في تغيير مسارات الحياة اليومية، ونشاطات الناس، وبرامجهم وأعمالهم.. كما أصبح الطقس سببا جديدا يضاف إلى مبررات الغياب أو التأخير ويأتي ربما الآن في مقدمة سلسلة الأعذار التي نتشبث بها أمام مؤسساتنا وأعمالنا ومتطلبات الأسرة والمجتمع.. كما أنه أصبح عاملا إضافيا لأعذار شركات الطيران ووسائط النقل العام في التأخير أو الإلغاء.. هذه الثقافة الجديدة حلت على مجتمعنا خلال الأشهر الماضية، وربما كانت سيول جدة وما قبلها هي بداية خروجنا على ثقافة جديدة بدأت تترسخ في قيم ومعارف لم تكن مسبوقة في حياتنا السعودية والخليجية.. والعواصف الرملية والأمطار والغيوم والبرق والرعد كانت لاشك موجودة، ولكن مع تكرارها وحجم أضرارها الكبير تصدرت اهتمامات الناس وثقافتهم، ولاسيما نحن نعيش مجتمعا واحدا تتواصل فيه المعلومة الشخصية بسرعة بين المناطق والمدن والأحياء.. ولم يعد مجتعنا يختلف عن باقي المجتمعات الأخرى في اهتمامه بالطقس كثقافة جديدة بدأت تترسخ في مفاهيمنا ومعارفنا.. ومما زاد وكرس مثل هذه الاهتمامات هو ما تسجله عدسات المواطن وجوالاتهم من مواقف إنسانية وقعت تحت تأثير هذه الظروف المناخية والحالات الطقسية المتنوعة.. ونشرها وبثها عبر الإنترنت وشبكات الإعلام الإجماعي جعل الناس يعرفون مدى الأضرار التي تحدثه مثل هذه الظروف الجوية.. وحجمها وتأثيرها على الناس.. وأصبحت هذه اللقطات هي النشرات الجوية الحقيقية التي يتطلع أن يشاهدها الناس، وليست النشرات التقليدية التي يطالعها المشاهد بين الحين والآخر..
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود
alkami@ksu.edu.sa