نشرت بعض الصحف السعودية الأسبوع الماضي خبراً عن قضية أمام المحكمة الإدارية في منطقة مكة المكرمة، رفعها طبيب سعودي ضد «المباحث الإدارية»، يطالب فيها بـ30 مليون ريال تعويضاً عن خطأ سجنه سبعة أشهر بعد اتهامه في قضايا عدة، وينتظر أن تقرر المحكمة في مطالب الطبيب ومحاسبة كل من حقق معه، وإحالته إلى الجهات المتخصصة في حال ثبت تورطه بتلفيق التهم ضده، ومواجهة المدعى عليها بجميع الأخطاء التي اقترفتها بحقه ومحاسبة المسؤول والمتسبب فيها مدنياً وجزائياً..
يدل ذلك على تنامي قضايا التعويض المادي في المجتمع السعودي، وعلى ازدياد الوعي بالحقوق الإنسانية للمواطن؛ فالأنظمة الأساسية للوطن ومرجعيته الشرعية تضمن استيفاء الحقوق للمواطنين، ويظهر ذلك جلياً في نظام ديوان المظالم.. لكن الخطوات الأهم في هذه المرحلة هو تطور الوعي في المجتمع السعودي، الذي أصبح يعي مدى جسامة سوء استخدام السلطة، الذي قد تكون آثاره كارثية كما حدث في قضية الطبيب السعودي إذا صح ما جاء في الخبر الصحفي..
الجدير بالذكر أن الإعلام المحلي كان سباقاً في توجيه النقد لسوء استخدام السلطة والنفوذ، وقد كانت هيئة الأمر بالمعروف الأكثر تعرضاً للنقد وللمحاكمة؛ فالأحداث التي تورطت فيها كانت أحياناً بسبب سوء استخدام السلطة والتدخل العنيف والمباشر بدون أمر قضائي مكتوب، لكنها بالتأكيد لم تكن وحدها في الساحة في قضايا سوء استعمال السلطة، ولعل أهم مساحة لسوء استخدام السلطة هو التفرد بشفوية قرار القبض على المواطنين بدون أمر قضائي، وفيها ضياع وهدر لحقوق المتهم في الدفاع عن نفسه أمام المحكمة..
لا يدخل في ذلك على سبيل المثال تطبيق القوانين العامة مثل المرور والأمن وغيرها، لكن يفترض ألا تتم مداهمة منزل بدون أمر قضائي، أو ملاحقة سيارة في حالة الشك أن الرجل غير محرم للمرأة التي كانت برفقته.. فالأضرار التي قد تنتج من ذلك قد تكون باهظة.. وبذلك يصح للمتضرر - حسب القانون الحديث - أن يرفع قضية سوء استخدام سلطة، والمطالبة بتعويض مادي حسب الأنظمة الحديثة، وهو إجراء قد يحد من تجاوزات سوء استخدام السلطة.
ليست مسألة التعويض المادي جديدة؛ فالشريعة الإسلامية حسب القراءة القانونية تكفل إزالة الضرر وتعويض المتضرر؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا: أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فأعطه حقه، وزده 20 صاعا من تمر مكان ما رعته». فالتعويض كان عن الترويع، وهو دليل على عدم صحة ملاحقة الناس وترويعهم في خصوصيتهم ما لم ينتهكوا الحقوق العامة، لكن ذلك لا يعدُّ أمراً محسوماً، وتكمن الإشكالية في التعريف الشرعي لماهية الخطأ؟ وعن تقدير الأضرار الناتجة عنه؛ فحسب الحديث الشريف المذكور أعلاه يجب تعويض المتضرر حتى من قِبل المسؤول الذي أخطأ في حقه، لكن المنظور الشرعي قد يرى الخطأ كالاجتهاد الذي يستحق فاعله الثواب؛ لذلك تحتاج قضية الخطأ والتعويض المادي إلى إعادة قراءة في الأثر، والتفريق بين التعويض الدنيوي وعقوبة يوم الحساب الآخروي؛ وذلك لأن المذنب الذي أخطأ في حق الآخرين قد يجد براءته من خلال الانتقائية في قراءة النصوص؛ فالخطأ هو ضد الصواب، وليس عليه عقوبة، قال تعالى: ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ?الأحزاب:5، وقال الأموي: المخطئ: من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ: من تعمد ما لا ينبغي، والخطيئة الذنب على عمد، وقال الراغب في (المفردات): (الخطأ: العدول عن الجهة) ثم ذكر بعض صور الخطأ ومنها: أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال أخطأ فهو خطيء، وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، وهذا المعنى بقوله - صلى الله عليه وسلم- (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، (ومن اجتهد فأخطأ فله أجر)، وقال الحافظ ابن رحب- رحمه الله -: (الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غير ما قصده، مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلماً)..
أيضاً لم يطرأ تغيير على التقدير المادي للدية منذ عقود، في حين ارتفعت أسعار البضائع والحيوانات أضعافاً، ظل تقدير قيمة الإنسان المادية قليلاً؛ ما يدعو المجالس الفقهية الإسلامية إلى مراجعة الأمر، وأيضاً الاجتهاد في تقدير الأضرار النفسية والمادية، كما حدث في قضية الطبيب وغيرها من القضايا التي لا تغيب عن صفحات الجرائد اليومية، ويدخل في ذلك أيضاً قضايا الأخطاء الطبية وغير الطبية.
وقبل الختام يجب النظر مجدداً في تعريف الخطأ وأحكامه شرعاً، على أن يتم التعامل معه بشكل شمولي، وألا يتم حصره أو اختزاله في قضايا محددة، وإن تم تفعيل هذه الرؤية الحقوقية سنحتاج إلى محاكم أكثر تطوراً، وإلى قوانين مكتوبة لحفظ حقوق المتضررين من الأخطاء مهما كان مصدرها.