يحيا الفرد بين أقرانه فيظهر نجاحه أو فشله من خلالهم، ومهما يكن حجم إبداعه أو ما يحمله من فكر أو توجه إيجابي مفيد لا يمكن قياسه إلا من خلال ما تحمله الجماعة التي يعيش بينها من معايير، تلك المعايير التي دائماً ما يتم الاحتكام...
...إليها في قياس مستوى نجاح توجه أو فكر الفرد وما المدى الذي حقق من خلاله ذلك النجاح. ولذلك، يذهب الفرد المبدع من ناحية إلى إيقاع اللوم على تلك المعايير فيما لو أخفق، ومن ناحية أخرى، يرى أنه قد أفاد جماعته أو المجتمع - أياً كان ذلك المجتمع - من خلال إبداعاته وتوجهاته الإيجابية.
بينما تذهب الجماعة إلى تأكيد قيمة الفرد وإبداعاته كونها من احتضنته وطورته وصقلته وهيأت له ظروف الإبداع والنجاح، وأنه لولا وجوده بينها لما كان مبدعاً مطوراً يحمل فكراً نيراً وتوجهاً مشرقاً.
ما قدمته لا يعدو كونه لسان حال الموظف المبدع والمنظومة التي يعمل بها معاً، فكل طرف يرى أنه صاحب الفضل على الآخر، فالفرد يرى أن المنظومة التي يعمل بها قد طوقت إبداعه ولم تستفد من أفكاره النيرة وأنه إن هو أبدع كان بسبب ذكائه على الرغم من الظروف السيئة التي تحيط به من تلك المنظومة وإن هو أخفق كان بسبب تقويض المنظومة لمساحة الإبداع لدى الموظفين، بينما ترى المنظومة أنها هي صاحبة الفضل في إبداع ذلك الموظف كونها قد هيأت له سبل الإبداع والبيئة المناسبة لإظهار ابتكاراته وإبداعاته وتوجهاته الإيجابية وأفكاره النيرة، وإن هو أبدع كان ذلك بسبب ما هيأته له تلك المنظومة من أسباب الإبداع في حين تتنصل منه حينما يخفق أو يقع منه ما يخالف الأنظمة.
وحتى نكون منصفين في تحليل الموقف، علينا أن نؤكد أن الفرد هو من يأتي بالفكرة المبدعة وليس المنظومة، وقد تتبنى المنظومة التي يعمل بها الفرد تلك الفكرة وتطورها وتعمل على تحسينها وإخراجها بشكل جيد، إلا أن ذلك لا يتعارض مطلقاً مع حقيقة أن الفكرة هي نتاج الفرد وليس المنظومة التي يعمل بها، على أن لكل منظومة ثقافتها التي ربما أحاطت بأفرادها ورسمت طريقاً محدداً أمامهم ما يسهم بتضييق مساحة الإبداع لديهم وتقلل من نتاجهم وتحد من توجهاتهم الإيجابية. والعكس صحيح، فعندما تسود ثقافة الحوار الحر والحث على الإبداع وتحفيز الموظف من خلال وجود أنظمة فاعلة تكفل إيجاد توفير سياسة الثواب والتقدير، كان للإبداع والابتكار مساحة واسعة وتضمن المنظومة حينئذ نتاجاً إبداعياً للعاملين فيها، الأمر الذي لا تستطيع أي منظومة الاستغناء عنه. فمعلوم أن أي عمل تقدمي يحتاج إلى عددٍ من الإجراءات لضمان نجاحه ويأتي في طليعة ذلك الفكرة التي هي نتاج الفرد العامل وليس المنظومة. لذا فأي منظومة تبحث عن التقدم والتطور لابد لها أن تحيط أفرادها المبدعين بالرعاية والاهتمام وعليها أن تيسر لهم المساحة اللازمة لإظهار إبداعاتهم.
وكما أن الفكرة هي نتاج الفرد وليس المؤسسة، فإن إخراج تلك الفكرة وتطويرها لا يمكن أن يحدث بمنأى عن المنظومة، بمعنى آخر، لا يمكن لأي فرد أن يُقدم فكرة ما دون أن يكون داخل مجتمع محدد، وإن تحدثنا هنا عن العمل فإن المنظومة هي الجهة التي يعمل بها الفرد سواءً كانت مؤسسة أو شركة أو وزارة.
وحتى تكون الفكرة المؤدية إلى عمل إبداعي ذات قيمة، لابد لأي جهة عاملة أن تكيف ثقافتها واستراتيجيتها بالشكل الذي يضمن القليل من المرونة التي يحتاج إليها الفكر الإبداعي للظهور والبروز ومن ثم النضوج كخطوة سابقة للنجاح المنشود وهي بذلك تكون قد أسست لمرحلة مهمة في مسيرتها ومسيرة العاملين لديها من خلال تبنيها لنجاحاتهم التي بلا شك تعود على المنظومة بشكل نهائي.
إن تكريس مفهوم الفشل والإيمان والاعتقاد به يقود الفرد المبدع لنتائج سلبية وخيمة قد يكون منها تدهور العزيمة وعدم الرغبة بالمحاولة، واليأس من الحياة وانخفاض الاهتمام بالإبداع والتغيير لديه، وربما عرضته لكثيرٍ من حالات الاكتئاب والقلق، والشعور بالذنب، والخجل من الآخرين، واختلال الصورة الذاتية والرغبة الدائمة في العزلة والانعزال وضعف الإيمان بالذات واهتزاز الثقة فيها، ومن ثم التحول إلى الانحراف والإجرام. أو ينتهي به الأمر إلى الانعزال عن الحياة الاجتماعية بشكل كامل ونهائي عبر عددٍ من المراحل التي عادةً ما تبدأ بضعف القدرة لديه على مواجهة المجتمع والتعبير عن نفسه ومن ثم الانطواء والانزواء خشية انتقاد المجتمع له والتقليل من شأنه ولصق الفشل به أينما حل وهو من كان أكثر أقرانه إبداعاً وكان ذا فكر نير. وإلى لقاء قادم إن كتب الله.