سأتناول في مقالي هذا وإن شاء الله في المقالين اللاحقين وربما يتبعهما رابع موضوعاً شطَّ الناس فيه كثيراً بين معارض ومطالب، وحمي الوطيس حوله بين متناظرين، فتشتت الرؤى وباتت الدهماء في قلق وحيرة مما هم عليه وما هم صائرون له. هذا الأمر الذي ألمَّ بالهواجس والأفكار هو اختلاط الرجال بالنساء معيشةً وتعاملاً وتنافساً.
وشجار المتناظرين هو المنظور الشرعي للاختلاط، فمنهم من يحرمه على الإطلاق، وآخر يبيحه على الإطلاق، وبين الفريقين من يبيح رخصاً محكومة بضرورات. وحيث إن الاختلاط تعبير شاسع الدلالة، مما ساهم في تباين طروح الفرقاء وأزَّم بينهم الجدل. لذا كان لازماً للمتناظرين بموضوعية تحديد مفاهيم معينة يتحاورن حولها، ويستقيم جدالهم بصورة تنتظم فيها حججهم ويتزن مضمون قولهم. فقد لاذ كل طرف منهم بما يحمد استناده. فمعارض الاختلاط احتج بتراث صدر الإسلام من الأقوال والأفعال والاعتماد على تخريج للظاهرة يفضي إلى تفسخ الأخلاق واتساع رقعة الرذيلة في المجتمع، كحتمية مشاهدة في مجتمعات الاختلاط فيها سلوك سائد. والمطالب بالاختلاط احتج بخلو التشريع من نص صريح يستمد من القرآن والسنة يحرم الاختلاط، وبرر ذلك أنه أمر بات من ضرورات العصر لما يشكله من تفعيل للقدرات الوطنية في زيادة الإنتاج والفاعلية الاقتصادية، وأن ذلك من حقوق ولي الأمر متى رأى المصلحة فيه فهو شأنه. وعلى احتدام الأمر بين المتناظرين، إلا أن ما بدر من النقاش حول الاختلاط هو أن الرؤيا لدى المتناظرين اتحدت في تقسيم الاختلاط لقسمين رئيسين. الأول هو الاختلاط العارض، وهو ما يحدث عرضياً ودون ترتيب ولا يستقر لزمن يولد الألفة (مع وجود خلاف حول المدة الزمنية)، وهذا الاختلاط يبدو أن الغلبة في حكمه الإباحة. والثاني وهو الاختلاط المقيم والذي له صفة التكرار والإطالة بما يولد الألفة، وهذا ما احتدم حوله الخلاف في المشروعية ولا يزال. لذا سأركز نقاشي في محاولة لحصر مفهوم الاختلاط بالاختلاط المقيم، وسأعمد إلى الدعوة لحصر مفهوم الاختلاط المقيم بنماذج تمثيلية من واقع الحياة اليومي ليتفق المتناظرون في تصور المفهوم. لذا وكقاعدة عامة، سأعتبر أن كل اختلاط متكرر له صفة الاستقرار والمداومة بين ذكور وإناث لا يربطهم علاقة محرمية، هو اختلاط مقيم. وسأعتبر أن كل اجتماع متكرر بين شخصين أو أكثر من الجنسين لغرض ما في مكان عام هو اختلاط مقيم. من ذلك سيكون عليّ لزاماً وصف اختلاط الأقرباء من غير المحارم باختلاط مقيم، وكذلك اختلاط المزارعين في المزارع وأهل القرى الصغيرة واختلاط المستشفيات. وسيكون عليَّ اعتبار كثير من التجمعات والنشاطات التي تشتمل على غير محارم اختلاطاً مقيماً، أذا تحقق فيها شرطا التكرار والإطالة. وتتسع الدائرة لتشمل نشاطات كثيرة، ولو أدخلنا عاملاً آخر هو وجود المحرم من عدمه في معادلة الاختلاط، ويتعقد التعريف بصورة كبيرة. ولأدلل على ذلك، أقول إنه لا يسمح بدخول النساء ملاعب كورة القدم لمشاهدة المباريات حتى لو كانت برفقة ذي محرم بحجة منع الاختلاط، وكذلك الحال بالنسبة لبعض المرافق كالمتنزهات وملاهي الأطفال. ثم أنه وبحجة منع الاختلاط تم منع كثير من النشاطات التي استجدت مع العصر مثل منع المرأة من قيادة السيارات والعمل كبائعات في محلات التجزئة خصوصاً للمستلزمات النسائية. هذه النماذج الحياتية للاختلاط بحاجة إلى تنسيق لضمها أو إخراجها من تعريف الاختلاط المقيم، حتى يتم البحث فيها من منطلقات أخرى.
فعندما يتم تحديد الاختلاط المقيم بالظواهر التطبيقية يصبح مفهومه أقرب للتصور واستجلاء مشروعيته ومحاذيره وما مآثره، ثم ليناقش الفرقاء مرئياتهم حوله بالصورة التي تمثل قناعاتهم، فلدينا أمثلة كثيرة لما يمكن أن يكون ضمن التعريف أو خارجه، وبالتالي يكون ضبط مفهوم الاختلاط بمعايير واضحة يمكن المتناظرين في توضيح مفاهيمهم وربما سيزيل بعض الغموض حول تماهي الاختلاط والخلوة في أذهان كثير من المهتمين. هنا لن أقحم رأيي في هذا الجدل، فلا حجة عندي أكثر مما قيل أو يقال، ولكن ما أعتقد أنه حري بالإيضاح هو النظر للاختلاط من منظار واقعي، وهو كونه حاصلاً فعلاً بتمظهرية المقيم والعارض في النشاطات الاجتماعية، وكونه ظاهرة اجتماعية مقبولة لدى معظم فئات المجتمع، فالعارض مقبول في الأسواق والمطارات والطائرات والمستشفيات، والمقيم متمثل في المزارع والمجتمعات القروية والتجمعات العائلية. وفي غالب هذه الظواهر لا علة في ذلك الاختلاط. ولكن العلة في ما يترتب عنها من محذور، وهنا ندخل في باب ما أفضى لمحظور أو كما هو معتاد تسميته «باب سد الذرائع». لذا يمكن القول إن الاختلاط فيما هو معتاد وممارس غير محذور بحد ذاته، وقد يكون ذريعة لمحظور وذلك المحذور هو نشوء علاقات حميمية بين ذكر وأنثى بصورة مخالفة للشرع، نشوء هذه العلاقة يمثل مخالفة فردية من طرفي العلاقة، وهو ما يستدعي التدخل النظامي بفرض عقوبة محددة، وهذه العقوبة تمثل رادعاً، فالإنسان يتحكم بتصرفاته بصورة إرادية تكبح رغباته بحضور رادع محسوس. إذاً لنا حق أن نتصور أن الاختلاط هو بيئة لا يكون التجاوز بالمخالفة من غير توفرها، وهي بذلك تماثل كون المجتمع بيئة للجريمة، فهل تشتيت المجتمع وسيلة للقضاء على الجريمة؟ ربما، ولكن ذلك غير منطقي. إذاً نجد أن علة الإفضاء لمحذور هي قياسية تخضع لعوامل متغيرة منها السلطة وقدرتها على ضبط المخالفات والمصلحة الناشئة عن الحالة ومقدار نفعيتها وسلوك وانضباط المجتمع.
إن الاختلاط كظاهرة حياتية يتيح فرصاً ويحجب أخرى، فالفرص التي يتيحها هو التعامل المكشوف والمعلن بين الأفراد، فالاختلاط لا يحدث إلا في مكان عام وإلا سمي خلوة. لذا وعندما يعتاد الناس على التعامل المكشوف سترتفع حجب كثيرة من التوجس والخوف، وستبرز أنماط للتعامل بين الجنسين تتسم بالانضباطية والاحترام للخصوصية الفردية والجنسية، وستحجب فرص الاتصال المستتر والذي بمجرد كونه مستتراً فهو مستثير للتعامل غير المنضبط.