في الاختلاف الصحي الدائر حالياً في الفضاء الشرعي السعودي علامات لمرحلة جديدة تتشكل في الذهنية الفقهية بصعوبة وبشيء ليس قليلاً من الخسائر الفردية.
نقض الآراء التي ظلت لعقود راسخة، تهجس للعامة بأنها هي الصواب المطلق والأوحد وغيرها خطأ أكيد لا يأتيه الصواب ولا من ثقب نافذة!
نقض لاشك له اشتراطاته الخاصة فلابد أن يأتي من داخل هذا الفكر الراسخ والشديد والقوي في ممانعته للرأي الآخر.
لم يكن النقض والاختلاف جديداً على المدرسة التقليدية التي تجنح دائماً للثبات ولا تعد المستجدات الحياتية حدثاً يتطلب إعادة التفكير فالمهم بقاء الفتوى ثابتة حتى لو كانت الممارسة على النقيض، فلا يهم ذلك الأهم هو بقاء الرأي وثباته.
وحين يحدث نقض وعلى قلة وندرة ما يحدث إلا أنه لا يمس عادة إلا قضايا خاصة مثل وقوع الطلاق من عدمه، عدد مرات الإرضاع المحللة، نصاب الزكاة وغيرها مما سمعنا عن اختلافات فقهية فيها.
لكن أن يحدث الاختلاف في قضايا تمس الشرائح بكافة مستوياتها وتتعلق بقضايا تنموية الكلمة الفصل فيها لولي الأمر حيث يقرر مصلحة من يليهم ومن هو مسؤول عن سير حياتهم فهم شعبه وهو حاكمهم ولهم عليه حق يعيه ويدركه ويخلص في أدائه حتى استحق ونال إعجاب العالم نظير ما قدمه ويقدمه.
ثمة قضايا، الاختلاف فيها يلزم أن ترجحه المصلحة الفردية لا الجماعية، مثل تحديد سن الزواج للإناث بـ18 سنة، لأن الضرر هنا يقع على فرد، يستغل وتنتهك طفولته، ولابد أن تسد ذرائع الاستغلال التي قد يجنح لها وليها في تزويجها وهي طفلة، تحديد سن الزواج حماية للنساء من الاستغلال ومن يمانعه، يتحمل وزر كل فتاة تزوج وهي طفلة وتدفع حياتها ثمناً لحمل مبكر أو قسوة في العلاقة الزوجية.
مثلما أن هناك قضايا ترجحها المصلحة العامة، طابور أولياء أمور الفتيات اللاتي يتزاحمن على برامج الابتعاث إلى الجامعات الأجنبية، يشير إلى أنهم ينتمون إلى طبقات اجتماعية متنوعة وتبعاً لذلك تتنوع ثقافتهم وأفكارهم وبيئاتهم، لكنهم اجتمعوا على شيء واحد هو الرغبة الأكيدة في الإسهام في التنمية والاستفادة من الفرص المواتية لذلك، كيف والحال هذه يكون اختلاط الداخل (جامعة الملك عبدالله) مرفوض، بينما اختلاط الخارج والتهافت عليه مقبول.
كيف نقبل اختلاط غير السعوديات (خادمات وممرضات ومضيفات) لدينا بينما يحرم اختلاط السعوديات، هل الجنسية والمكان هي التي تحدد حرمة الأمر وإباحته، أم أن الممارسة شيء والرأي شيء آخر.
لماذا نقفل باب التفكير ومواجهة الواقع، لماذا نغضب من إعادة التفكير ونصادر حق من يفتح كتبنا ومصادرنا من جديد ليعرف أن كل فريق لديه نصوصه وقراءته وفهمه وتفسيره في ضوء عصره ومتغيراته.
المشكلة في رأيي تكمن في الرأي البشري الذي تم تداوله على مر العصور ويعتبر كل من ناقش في هذه التفسيرات البشرية خارجاً متمرداً على إرث الأمة، أدى ذلك إلى تخوف ورهبة من محاكمة النص البشري لأن ذلك سيؤدي حتماً للنقمة والاستبعاد.
اليوم نشهد خروجاً علمياً، يفكر ويعرض، وينقض، وعلى الرغم من أنه إلى الآن يقوم فقط بنقض الآراء بآراء أخرى من ذات الكتب والمصادر إلا أنه يواجه غضبة كاد يدفع وظيفته العامة -ثمناً لها-!
والحال هذه، متى يفتح باب اجتهاد العالم، وهل سنقدر من يجتهد ويأتي بما فيه مصلحة الدين والدنيا، هل أقفل باب الاجتهاد تماماً؟
هل هذا المناخ الشرعي الذي مازال يعتمد على تفسيرات وآراء علماء ومجتهدين عاشوا قبل قرون، واكتفوا بنظرتهم وتفسيرهم وفهمهم الخاص المناسب لعصرهم وهو يعد إنجازاً لهم فقد تعاملوا مع النصوص المقدسة وفق معارفهم وأفهامهم وظروف مرحلتهم.
ماذا عنا نحن في هذا العصر، طلبة العلم وحلقات الدرس في الجامعات ومراكز البحث الشرعي هل تعد منجزها في أن تظل ناقلة، مكررة لما قاله الأسبقون من مجتهدي ومفسري العصور السابقة، هل القراءة وجمع الأقوال من المصادر يعد منجزاً؟؟
هل أقفل باب الاجتهاد، ومن يجرؤ على فتحه بقوة، ومن هم المؤهلون لذلك، أسئلة تفرضها مناخات الاختلاف الشرعي الفقهي في المشهد السعودي التي باتت واضحة للعيان.