رحمك الله رحمة واسعة، فقد كنت خزنة علم، وجعبة أدب، وبؤرة فكر، وعالم ثقافة، ولا غرو فأنت سلالة علماء، عاشوا في محيط علماء، ومجتمع منير.
|
لقد ابتُعثت إلى مصر، وأنت مسلَّح بثقافة هيَّأتك أن تلتحق بكلية اللغة العربية في جامعة الأزهر، ونهلت من العلم ما أهَّلك أن تحصل على الشهادة الجامعية. وعدت إلى بلادك مسلحاً بسلاح مهَّد لك طريقاً تتولى معه منصباً مرموقاً في وزارة التربية والتعليم، فقمت بعملك على الوجه الأكمل.
|
لقد مَنَّ الله عليك بعقل راجح، وذهن صافٍ، وحافظة واعية، فلم تكن تحفظ شعراً فقط، والشعر سهل الحفظ، ولكنك تحفظ نثراً وأي نثر، وكان من بين ما تمتع به سامعيك من النثر مقامات الحريري، التي وعتها ذاكرتك، وساعد على الاستماع إليك وأنت تتلو ما ورد فيها. طريقة إلقائك، التي تجعل للمعاني وقعاً في النفوس، وللأفكار تجسيداً يكاد السامع يمد يده ليلمسه، وأنت بهذا تمثل قول الشاعر:
|
علمي معي أينما يممت يتبعني |
صدري وعاء له لا بطن صندوق |
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي |
أو كنت في السوق كان العلم في السوق |
رحمك الله يا أبا مازن، فلقد عشقت العلم طالباً، وهِمْتَ بمتابعة العلم خريجاً، وطبقت العلم عاملاً. ومن أراد أن يعرف عنك ما لم يعرف من قبل فليقرأ ما كتبته في (المجلة العربية) عن ذكرياتك، التي أكرمت بها إخوانك المحبين، الذين طلبوا منك بإلحاح كتابتها، ليرى الناس نموذجاً من النماذج البشرية التي تضحِّي بالوقت والعمر في سبيل نشر نور العلم من نوافذها.
|
بموتك احتجبت شمس في أفق أهلك ومحبيك، وغاب بدر، وأفل مع غيابهما نجم، وأظلم أمام الأعين الدامعة أفق، وانهمل دمع، وتحشرجت صدور. إنَّ وقع خبر وفاتك ليس سهلاً، إنه نزول صاعقة، وإنَّ فقد أديب أريب مثلك خسارة فادحة، فأنت من جيل لا يعوض، مثَّلت زمنك خير تمثيل، وألبست جوانب الفكر لديه أرفع درجات الشرف، بما أديت، وبحسن تصرفك. متى يأتي من إذا تكلم أسمع وأشبع، وإن تحدث أروى وأحسن وأجاد.
|
سيفقدك الأدب الرصين، والعلم المشع المنير.
|
لقد استوعبت تراث الأولين، ووفَيت له، وأشعت ما فيه من فضائل، وفتحت نوافذ على ما فيه من رياض الفكر والأدب والسؤدد.
|
لقد أوقفت مساء الأحد من كل أسبوع، لتبقى صلتك بأحبائك ومريديك، ولتنشر الفكر النابه، والرأي السديد، فكان لك ما أردت.
|
وقد بقيت هذه الليلة حية معطية ثمراًُ ناضجاً طوال أيام قوتك في حياتك. جعل الله عملك مقبولاً، وأثابك على النية الحسنة التي أضمرتها، وعلى العمل المقدر الذي حافظت على ارتفاع مستواه، وجعلته منبراً للفكر، وضربت مثلاً بفائدة الأعمال المخلصة، لقد كنت قدوة في هذا.
|
مواطن بار وفيت للأحساء، إذ اخترت أن تسكن فيها بعد أن تقاعدت، اعترافاً منك بفضلها عليك، وهي التي غرست فيك بذرة العلم، وهي التي وجهتك إلى الطريق الذي حمدته وحمدناه معك. أجل إنك ابنها البار، والبر جزاؤه عند من لا تعجزه إثابة البارين.
|
يا أبا مازن، يا حبيبنا أحمد بن علي المبارك اذهب إلى رحمة ربك، تودعك دموعنا، وتشيعك قلوبنا، وتخفق لبعدك جوانحنا.
|
ذكرياتنا معاً في مصر لا تنسى، وهي عامل عزاء لي، سوف لا أنسى تدارسنا بعض جوانب الأدب ونحن نسير ليلاً على شاطئ النيل خلف شارع المنيل بجانب حي الروضة، أنت تستقي مما تدرسه في كلية اللغة العربية، في جامعة الأزهر، وأنا أغرف مما أدرسه في كلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول.
|
لقد شهد شاطئ النيل خطونا، يداعب وجهينا نسيم عليل، ويشنف أسماعنا ضعيف جريان النيل الهادئ.
|
يمر بنا المارون فلا ندري عنهم، لأن امرأ القيس وعمر بن أبي ربيعة والفرزدق وجرير وابن زيدون ولسان الدين الخطيب والصاحب بن عباد وبديع الزمان الهمداني والجاحظ وابن المقفع وشوقي وحافظ أصواتهم أعلى من أصوات من حولنا، وقبولنا لهم أكثر جاذبية ممن نمر بهم أو يمرون بنا. ذكريات كلما استعدتها سوف أتخيلك أمامي، وسيبقى الأمر معي هكذا حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
|
عزاؤنا لأبنائك وأحبابك وأصدقائك ومواطنيك وسوف لا ننساك، سوف نذكرك عندما نقرأ أدبا رفيعا، أو نسمع صوتاً عذبا يتلو مثل ما كنت تنطق، أو نرى بعض مظاهر تأثيرك على من كانوا يرتشفون من علمك.(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) .
|
|