اهتم المثقفون العرب كثيرا بالفلسفة الغربية، ونقلوا منها الكثير، وتبنى البعض منهم أطروحات، ووقف آخرون من التيار الديني ضدها، وحاول آخرون قدر الإمكان نقضها واتهامها بالتحيز لمركزية العقل الغربي، كذلك كان لمثقفين محليين مشاركة فعّالة في محاولة استخدامها في محاولات إعادة قراءة الموروث؛ ما أثار التيار الديني ضدهم، لكنها محاولات ما لبثت أن انطفأت، برغم استمرار بعض المناوشات من قِبل بعض المثقفين المحسوبين على التيار الليبرالي، لكنها لا تدخل كثيراً ضمن ثقافة التبني لأطروحة فلسفية محددة، وتتميز بسرعة عودتها إلى قواعدها سالمة إذا ما احتدم الحوار..
انتقل منهج التفكيكية أو التشريحية كما عبّر عنه الناقد السعودي عبدالله الغذامي إلى الواقع المحلي، وحاول تطبيقه بحذر على الموروث، فرأى أن النص إشارة حرة حررها المبدع ليطلقها صوب المتلقي، لا ليقيدها بقراءة موروثة، وإنما يتفاعل معها بفتح أبواب خياله لها لتحدث في نفسه أثرها الجمالي، لكنه واجه حملة من المدافعين عن الإرث الإسلامي، وكان لذلك الهجوم أثر في تجميده عند ذلك الحد، فيما رأى الناقد سعد البازعي أن التفكيك منهج متحيز جاء به اليهودي جاك دريدا، لكن الفصل في ذلك كان على يد المفكرين عبدالوهاب المسيري وإدوارد سعيد اللذين قاما بتشريح المنهج التقويضي أو التفكيكي عندما وجدا فيه محاولة لهدم النص المقدس وذوبان الهوية واغتيال الموروث.
تُعدُّ التفكيكية حركة مضادة للحداثة ومعولا نقديا لها؛ فالملاحظ أن الحداثة الغربية بوصفها مفهوما فلسفيا لم تظهر على الساحة المحلية كحركة ثقافية مؤثرة تتبنى أصول الحداثة الغربية، بل إن أثرها كان أقل توهجاً من تيارات ما بعد الحداثة؛ فقيم الحداثة الغربية التي تدخل فيها الديمقراطية والمساواة والقانون وحقوق الإنسان قد تنسجم مع الموروث من خلال نظرية التطوُّر مع المحافظة على مركزية الهوية، لكنها مع ذلك لم يتم الإعلان عن تبنيها إلا لماماً، في حين تأتي الكارثة عندما يتم استقدام تيار ما بعد الحداثة في مجتمع لم يدرك بعد مبادئ الحداثة الغربية، ويدخل في هذا التصوُّر مختلف المجتمعات العربية والإسلامية، ولعل تجربة اليابان في التوفيق ما بين الموروث والهوية والحضارة الغربية دليل على أن الاستفادة من التجربة الغربية يجب أن تتم من خلال استقدامها لمعالجة الخلل الذي صاحب الحضارة العربية والإسلامية في مناعتها ضد التحديث.
في الوقت الحاضر، وفي ظل الليبرالية الجديدة، يبدو أن الأمور تسير حسب منهج التفكيك أو التقويض، الذي يدخل ضمن دعوات القطيعة مع التراث والهوية، ومن أهمها الحرب على اللغة العربية واجتياح اللغة الأجنبية لميادين المعرفة والعلم الحديث، كذلك قد تؤدي المشاحنات الحادة بين التيارَيْن الديني والليبرالي إلى زعزعة مرجعية الهوية عند الأجيال الجديدة؛ فالغزو الغربي الحالي تجاوز مبادئه إلى خلخلة المرجعية العربية والإسلامية وإثارة النعرات القومية تحت مسميات حقوق الأقليات، في حين تواجه الأقليات العربية والمسلمة في الغرب حصارا ضد تعلقها بهويتها ودينها!! كذلك يدخل في ذلك انتشار المدارس الغربية والتحاق أبناء المواطنين بها؛ ما يؤدي إلى خروج أجيال لا ينظرون بعين الاحترام إلى تراثهم وهويتهم، وفي ذلك تبنٍّ غير مباشر للتقويض.
لا تزال معظم المجتمعات العربية تُعدُّ في مرحلة تحت الحداثة كما عبَّر عنها برهان غليون، بينما تدور فلسفة الليبرالية الجديدة في ما بعد حداثية، التي كانت قد خرجت نتيجة للسجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، وهو ما قد أدى إلى نكوص في المجتمعات العربية حسب المصطلح الفلسفي، ثم خروج أصوليات ترفض قيم الحداثة الغربية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، والسبب يكمن في غياب تطبيقات الحداثة الغربية مثل الشفافية ومحاربة الفساد المالي والمحاسبة بمختلف أوجهها.. بينما ظل المثقف السعودي يدور حول نفسه متنقلاً بين التيارات الفلسفية بعيداً عن قضية التنوير والوعي بخطورة المرحلة، وتاركاً المجال لماكينة الإعلام الغربية التي استطاعت الدخول إلى كل منزل والعمل على تفريغه من محتوى الهوية ثم تحويله إلى مسخ ما بعد حداثي لا يتواصل إلا من خلال لغة الجسد المابعد حداثية.