يتهم البعض وسائل الإعلام المحلية بتأجيج الصراعات الفئوية التي تظهر بين حين وآخر، فقد تكون: فكرية، طائفية، قبلية، مناطقية .. إلاّ أنها غالباً تظهر بشكلها الفكري كما في هذه الأيام بين السلفييين والليبراليين..
في تقديري أنّ الإعلام هنا ناقل للحالة وليس مسؤولاً عنها، ربما يكون نقله سلبياً في ظل استقطابات متوترة تعيشها المنطقة العربية ويتبنّاها الإعلام البديل (مواقع الإنترنت الشعبوية) بطريقة عشوائية نتيجة الافتقار لمؤسسات المجتمع المدني المعنية بالشأن الثقافي والاجتماعي لاسيما النقابي منها، مما يؤدي إلى انزلاق أقلام رصينة في معمعة مكررة لا رؤية فيها، كما طرح عبد العزيز الخضر في كتابه «السعودية .. سيرة دولة ومجتمع»: «كثير من المعارك الدينية والاجتماعية والثقافية تأتي حول قضايا معيّنة ذات سيناريوهات مكررة تعيد إنتاج نفسها.. فشكّلت ذهنية صراع تقليدية».. وقد وجد الخضر في تحليله أنّ غياب العمل المؤسسي الحديث وعدم وجود بدائل له، أدى إلى غموض مستمر في رؤية الصراع وحركة التيارات محلياً.
هنا تتشكّل الخلفية الاجتماعية للصراع الفكري من خلال ذهنية تقليدية شعبوية، في ظروف ضعف مؤسسات المجتمع المدني. فالمفاتيح الأساسية للذهنية التقليدية، والتي تتفتق الآن مع الإنترنت، هي: الرأي الواحد المطلق، يقابلها في المؤسسة الحديثة (شبه الغائبة): الرأي المتعدد النسبي.. الأول فوضوي والثاني منظم.. ولأنّ نمط الأول مسيطر على هذا الخلاف الفكري فمن الصعوبة أن نجني ثماره.
يدرج فريد الشاني آراء بعض المفكرين بأنّ ثمة صلة وثيقة بين المجتمع المدني وبين تنظيم الفوضى وإيجاد الحلول للصراعات كما طرح جون لوك، أو كما أدرج هيجل المجتمع المدني ما بين مؤسسات الدولة كمرتكز وبين المؤسسات المجتمعية من أجل تمكين المجتمع على التنظيم والتوازن؛ ويختلف معه ماركس بأنّ المجتمع المدني (البناء التحتي) هو المرتكز ومسرح التاريخ الفعّال في التطور وليس الدولة (البناء الفوقي).
ولعل جرامشي الأكثر إبداعاً في شرح تأثير المجتمع المدني على زج المثقف العضوي في عملية تشكيل الرأي ورفع المستوى الثقافي، من خلال تكوين مؤسسات مجتمعية ونقابية، تهدف إلى التفاعل الحيوي وغير المتنافر بين البناء الفوقي والبناء التحتي. فالمجتمع المدني يحتوي على العلاقات الثقافية والإيديولوجية ويضم النشاط العقلي والروحي، حسب جرامشي، الذي يرى أنّ المجتمع السياسي حيز للسيطرة بواسطة الدولة، بينما المجتمع المدني هو فضاء للهيمنة الثقافية وظيفتها توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارَس بواسطة التنظيمات كالنقابات والمدارس والصحافة ودور العبادة والهيئات الثقافية المختلفة. ويذكر هابرماس أنّ وظائف المجتمع المدني تعني لدى جرامشي (بماركسيته المطورة) الرأي العام غير الرسمي.. فكل مصلحة وكل مؤسسة مجتمعية تتحوّل مع الزمن إلى أفكار..
فالأفكار لا تأتي من فراغ بل من واقع معاش تشكلها المصالح التي تعبّر عنها المؤسسات المجتمعية، ولأنّ المؤسسة المجتمعية العربية الحديثة بضعفها لا تستطيع حماية أعضائها، بل قد لا توجد مؤسسة مهنية لحماية مصالح أعضائها من أي خلل يحدث في الأنظمة أو تطبيقها، فبالتالي لا تمتلك أفكاراً واقعية مؤثرة، مما ينتج عنه أنّ أفراد المجتمع يلجئون إلى مؤسساتهم التقليدية أو قيمهم التقليدية، فهم لا يعرفون غيرها، فهذه الانتماءات الضيقة موجودة منذ قرون، يفرخها الآن الإنترنت، وقد تتشكّل بصور فكرية جديدة، بل وربما تأخذ شكلاً حداثياً لكن بممارسات ماضوية، يعزّزها مجموعة من العوامل، منها ضعف المؤسسات الحديثة (المدنية والرسمية).
وتتفاوت الدول العربية في مؤسساتها المجتمعية الحديثة، فمصر تعتبر الأولى، حيث بدأت فيها منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومع منتصف القرن العشرين كانت النقابات قائمة بكافة أشكالها: المحامين، العمال، الأطباء، الصحفيين، المهندسين، المعلمين .. الخ؛ وبها ما يربو على 1100 مؤسسة مدنية، ولو أخذنا اتحاد العمال في مصر نجد أنه يشمل 22 اتحاداً ويضم نحو أربعة ملايين عضواً؛ بينما في دول الخليج نجد أنّ وضع المجتمع المدني متأخر من ناحية العدد والنوعية، فيما تقع بلدان عربية كالأردن والمغرب في الوسط..
الواقع الحالي لمؤسسات المجتمع المدني في السعودية يمكن تقسيمه على ثلاثة مستويات: الأول هو مستوى رؤية وتوجُّه القيادة والنخب والدعوات الإصلاحية لتشجيع إنشاء المزيد من مؤسسات المجتمع المدني؛ الثاني مستوى التنظيم التشريعي، وثمة نظام جديد بصدد الظهور من مجلس الوزراء بعد إقراره من مجلس الشورى، وهو نظام واعد رغم ثغرات في مرونة تأسيس الجمعيات ودرجة استقلاليتها؛ الثالث وهو المعيار الوظيفي (التطبيق على أرض الواقع)، والذي تظهر فيه المؤسسات الموجودة متواضعة جداً.
أهم المعوقات التي تواجه مؤسسات المجتمع المدني لدينا هي التنظيمية، فالنظام الجديد المقترح لا يستخدم مصطلح «مدني» بل «أهلي»، مما يشير إلى نوع من التحفظ القانوني المسبق على بعض الكيانات المؤسسية كالنقابات والاتحادات والمؤسسات الحقوقية، رغم أنه يسمح بإنشاء اتحادات بين الجمعيات مما يعني فتح الباب للاتحادات المهنية والطلابية والثقافية والحقوقية وغيرها؛ ورغم أنّ هيئة الصحفيين الموجودة هي من الناحية الوظيفية اتحاد نقابي، وكذلك الغرف التجارية وبعض المؤسسات الأخرى الأقل أهمية كاللجان العمالية، ورغم أنّ هناك مؤسسات حقوقية.. هذا يقودنا إلى التفسيرات المتشدّدة للأنظمة التي تحد من إنشاء المؤسسات وتحد لاحقاً من صلاحياتها وتعرقل حركتها، بينما نحن بحاجة إلى تفسيرات مرنة تمنح المؤسسات مزيداً من الفاعلية.
هذا المعوق يمتزج معه عدم النضج المؤسسي للناشطين المتطوعين في مجتمعنا التقليدي، سواء من ناحية الوعي والرؤية والفكر، وبالتالي في وضع الاستراتيجيات وبرامج التنفيذ، أو من ناحية التطبيق والتواصل مع المجتمع، فكثير من الناشطين غير مؤهلين للعمل التنظيمي التطوعي، إنما اعتمدوا على أنفسهم بالفطرة وبالممارسة المباشرة على طريقة التجربة والخطأ (trial and error).
إذا كان المجتمع المدني هو المجال الفعَّال لإدارة الاختلاف الفكري وضبط توازنه، فإنّ ضعف مؤسساته الحديثة يفضي بالاختلاف إلى خلاف عشوائي، لأنّ المختلفين يلجئون إلى المؤسسات القديمة الهرمة أو إلى أفكارها وطرق تفكيرها (التي هي جزء من المشكلة)، فالناس في وقت الاختلاف الانفعالي، إذا لم يجدوا مؤسسات حيوية جديدة، يلجئون لما ألفوه من أنماطهم القديمة حتى لو علموا أنها منتهية الصلاحية.. فالظمآن التائه في الصحراء سيشرب ماءً آسناً إن وجده ولن ينتظر ماءً عذبا!
alhebib@yahoo.com