تربطني بمدرسة اليمامة الثانوية بالرياض علاقة حميمة ولدت على مقاعد الدراسة بها قبل أكثر من أربعين عاماً، وهي تمثل عطر (الربيع) في حياتي، ففيها تفتّحت براعم شبابي الحالم بمستقبل جميل يٌنسيني أوجاعَ الأيام، ومن خلالها، بدأتُ تجربة العيش في مدينة الرياض لأول مرة، قادماً إليها من أكثر من موقع في هذا الوطن الغالي، وبين جدرانها اكتشفتُ بوح النفس تفاؤلاً بما تضمره لي الليالي والأيام القادمة.
كانت المنافسةُ الدراسيةُ الشريفة مع بعض الزملاء سيدة الموقف طلباً للعُلا، تحصيلاً وتفوقاً، وكان من أبرز (أبطال) ذلك السباق الدراسي الجاد وأشدّهم (مواجهة) مع كاتب هذه السطور المهندس المعماري اللامع، فارس بن عبدالرحمن الفارس، والأستاذ الدكتور عبدالله بن محمد الشعلان.
وتشدّني في هذا المقام ذكرى خاصة تتعلق بموهبة الزميل العزيز فارس الفارس في الرسم، وكيف أن إبداعه الفني كان (يتسلّل) إليه أحياناً خلال بعض الدروس، فيرسم رسوماً ذات مغزى معين (يدغدغ) مشاعر شباب ذلك الزمن، ثم يهرّبها من تحت المقاعد لمن يشاء، حينئذ لا يملك أحدنا بعد مشاهدتها أن يكتم نفسه وأنفاسه ضحكاً، (فيحاكيه) الآخرون تقليداً، بينما المدرس متجه نحو (السبورة)، وحين تستفزه الضحكات المكتومة يلتفت صوبنا بغيضٍ، ونقابل ذلك بصمت القبور، فيما (تختلس) بعض العيون النظر إلى الزميل فارس عتاباً فلا يزيده ذلك إلا صمتاً!
وتحضرني كذلك ذكرى أستاذ الرياضيات (سهمود) من مصر العزيزة، الذي آتاه الله بسطة في الجسد وموهبة في الرياضيات، يضاف إلى ذلك ثراء في المرح، وقد أراد أستاذنا سهمود أن يعبّر عن (تمرّده) على قرار لوزارة المعارف يُلزم أساتذة المدرسة باعتمار الزي السعودي كاملاً بما في ذلك العباءة (المشلح)، فيدخل الفصل ذات يوم حاسر الرأس، وقد وضع المشلح مطوياً ومعه الغترة والعقال (والطاقية) على كتفه العريض، ويثير مشهده الغريب ابتسامات الطلاب وتعليقاتهم الهامسة، فلم يزده ذلك إلا تجاهلاً، ثم يضع (حمل) كتفه على مقعدٍ مجاور ويبدأ الدرس وكأن شيئاً لم يكن!
وقد ولدت على ضفاف (اليمامة) العتيدة صداقات لم تذبل أو يأتِ عليها النسيان، كان من أبرز أصدقاء تلك الفترة الإخوة الكرام عبدالرزاق القين وعبدالعزيز التريكي وعبدالله الغليقة، واللواء راشد بن عبدالله الرشيد (رحمه الله)، وكان ذلك الإنسان سراجاً لا ينضب له وقود من الألفة والأنسِ والصفاء، والدكتور حمزة الخولي، والمهندس عبدالكريم الطوخي، والأستاذ مقبل الخلف وشقيقه الصديق الدكتور علي، و(فيلسوف زمانه) راشد العساكر، وغير هؤلاء وأولئك كثيرون، أتردّد ألف مرة في إحراج ذاكرتي استدراكاً لأسمائهم، لكن للجميع ذكرى عطرة لا تغيب عن البال محبةً ووفاءً ودعاءً لميتهم بالرحمة والرضوان ولحيّهم بالتوفيق والسداد.
وقد بلغ بي الولاء والوفاء لهذه المدرسة حداً جعلني ذات مرة أكتب مقالاً في عام 1419ه ضمّنته رسالة إلى نصير الفكر والمعرفة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله- ألتمس من سموه التوجيه بإقامة نصب تذكاري في المكان الذي آوى مدرسة اليمامة الثانوية عقوداً طويلة قبل أن يزال مبناها لصالح المشروع العملاق المعروف ب(مركز الملك عبدالعزيز التاريخي) الذي أقيم في قلب حي المربع بالرياض احتفاءً بالذكرى المئوية لمولد كيان بلادنا الخالد، وكان هدف الاقتراح تخليد ذكرى هذه المدرسة التي تخرّج منها وزراء وأدباء وأساتذة جامعات ومسؤولون ورجال أعمال بارزون، وقد استجاب سموه- حفظه الله- لذلك الالتماس، وذاك مصدر اعتزاز وفخر لكل من ارتبط اسمه بتلك المدرسة تجربة وذكرى.
وقبل فترة قصيرة شرّفني بالزيارة في مكتبي كل من مدير مدرسة اليمامة الثانوية، الأستاذ حسين بن سعود التميمي، والأستاذ عبدالله بن خالد الشلهوب، المستشار بمجلس العائلة بالديوان الملكي، ونقلا لي بُشرى الشروع في إنشاء (رابطة لخريجي اليمامة الثانوية) تجمع شملهم، وتوطد عُرى التواصل بينهم، وتكون شاهداً لفترات حميمة اجتمعوا خلالها تحت قبة تلك المدرسة العتيدة. وقد رحّبتُ بالمشروع، وأشدت بكل جهدٍ ومجتهدٍ وصانع برّ في سبيله، وتمنيت الإسراع في إنشاء الرابطة المقترحة، وما ذلك على عَزْمِ القادرين بعزيز إن شاء الله.