في مقال سابق تعرضنا لموضوع (سجود المخلوقات لله تعالى) وفي هذا المقال ستناول موضوعاً مشابهاً له، وهو (تسبيح المخلوقات لله تبارك وتعالى)، وقبل أن أدخل في الموضوع سأقف وقفة مهمة مع مسألة قلما تفطنتم لها إخواني القراء، وهي: ثبت بالنصوص الشرعية أن الجمادات، والحيوانات، والنباتات مخلوقات لها لغة: تنطق، وتشتكي بها...! ولها إحساس وشعور: تحب وتكره...! ولها اختيار ومشيئة - أيضاً - والأدلة على هذا كما يلي:
* قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (21) سورة فصلت. تأمل معي (أنطق كل شيء)! ومما يعيننا على فهم هذه الآية الحديث التالي: أخرج مسلم في صحيحه: (عن الشعبي عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال: «هل تدرون مم أضحك»؟! قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: ٍمن مخاطبة (أي: محاجة) العبد ربه يقول: يا ربِّ ألم تجرني من الظلم! قال: يقول: بلى. قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني (أي: لا أقبل شاهداً على أني عصيتك إلا مني) قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً! قال: فيختم على فيه! فيقال لأركانه: انطقي: قال: فتنطق بأعماله (أي: بذنوبه التي عملها - قال - ثم يخلى بينه وبين الكلام (مع أعضائه، وأركانه) قال: فيقول: بعداً لكنّ وسحقا؛ فعنكن كنت أناضل! (يسب هذا العاصي أعضاءه التي عمل المعصية بها». وفي رواية عند مسلم: (فيختم على فيه! ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي؛ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه؛ وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه».
أخرج أحمد في المسند: (عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جذع (أي: يكون له سترة، أمامه إذا صلى) وكان المسجد عريشاً (أي: له سقف) وكان (صلى الله عليه وسلم) يخطب إلى جنب ذلك الجذع (أي يتكئ عليه إذا خطب) فقال رجال من أصحابه: يا رسول الله، نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة (أي: منبر) حتى ترى الناس أو قال حتى يراك الناس وحتى يسمع الناس خطبتك؟! قال: نعم؛ فصنعوا له ثلاث درجات (منبر من ارتفاعه ثلاث درجات)، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان يقوم؛ فصغى الجذع إليه (أي: اهتز وتحرك)! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطباً الجذع: اسكن! ثم قال: لأصحابه هذا الجذع حنّ إليّ! (فمن شوقه، وحنينه للرسول - صلى الله عليه وسلم - اهتز، وتحرك شوقاً إليه) فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (يخاطب الجذع): اسكن! إن تشأ غرستك في الجنة فيأكل منك الصالحون؟! وإن تشأ أعيدك كما كنت رطباً؟! فاختار الآخرة على الدنيا؛ فلما قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم - دُفع إلى أُبَيّ فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة (حشرة تأكل الخشب).
قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء.
اختلفوا: هل كل شيء يسبح، أو ما فيه روح؟! لأن المخلوقات إما أن تكون بروح، أو بغير روح! فمثلاً الحيوان إذا كان حياً كان فيه روح، وإذا مات أصبح بغير روح. هل في كلا الحالتين: يسبح، أو عندما كان حياً فقط. ومثله النبات وهو في زرعه رطباً، يُسقى بالماء هل أيضاً يسبح حتى بعد قطعه، وبعد أن يتحول من رطب إلى يابس.
ومن المخلوقات التي ليس فيها روح من باب التمثيل: صحون الأكل، الحديد الذي استعمل في صناعة خنجر، أو سيف إلى غير ذلك.
الذين قالوا: إن المخلوقات التي فيها روح هي التي تسبح، وما عداها فلا، استدلوا بهذا الحديث: أخرج البخاري في صحيحه: (عن ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة، أو مكة؛ فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبريهما! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذبان وما يُعذبان في كبير، ثم قال: بلى! كان أحدهما لا يستتر من بوله (يعني: أن البول يصيب ثوبه، وبدنه) وكان الآخر يمشي بالنميمة، ثم دعا جريدة (يقصد جريدة من نخلة رطبة) فكسرها كسرتين؛ فوضع على كل قبر منهما كسرة فقيل له: يا رسول الله؛ لم فعلت هذا؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم.. إلى أن ييبسا).
فهموا من هذا الحديث: أن النبات وهو رطب يسبح؛ فيخفف العذاب على صاحبي القبرين، حتى إذا يبس وخرجت الروح منه؛ فإن التسبيح ينقطع.
ونرد عليهم: أن الآية على عمومها: قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء، تشمل ما كان فيه روح، ومن لم يكن فيه روح!
أخرج البيهقي في (دلائل النبوة): عن أبي ذر، يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته، كنت رجلاً أتتبع خلوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته يوماً جالساً وحده، فاغتنمت خلوته فجئت حتى جلست إليه، فجاء أبو بكر فسلم ثم جلس عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء عمر؛ فسلم فجلس عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فسلم ثم جلس عن يمين عمر، وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع حصيات، أو قال: تسع حصيات، فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن! حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل ثم وضعهن فخرسن ثم أخذهن فوضعهن في كفه فسبحن! حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه خلافة النبوة).
أخرج مسلم في صحيحه: (عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت! فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة؛ أهلكت أمة من الأمم تسبح).
الله أكبر (أمة من الأمم تسبح) فكم من الأمم من الحيوانات، والحشرات، والدواب بيننا، وأمام أنظارنا نظنها صامتة، وهي تلهج، وتضج بالتسبيح، والعبودية لله - تعالى - ونحن عن الاعتبار بها غافلون: قال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.