الإبداعية هي نتاج عقول ذكية متحررة من القيود، دستورها المنطق ومحيط فكرها اللامحدود. والدين محدود مرتين، مرة في أصله ومرة في فهمه. فهو محدود في أصله بالكتاب والسنة. وهو محدود في فهمه ضمن حواجز قيود ثلاثة أصول عظيمة: هي أصل النية وأصل المنع في العبادات وأصل الحِل في المعاملات. والدين قد اكتملت مصادره بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أكملتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. واكتملت تأصيل قواعده في القرون الثلاثة الأولى المفضلة، فكيف يوصف شخص بعد القرون الثلاثة المفضلة بأنه عالم دين والشرع لا مجال للابتكار أو الابتداع فيه؟
لو تأمل الناظر في التاريخ الإسلامي لوجد أن أعظم علماء الدين المسلمين عبقرية وشهرة هم من أعاد الدين إلى ما كان عليه في القرون الأولى المفضلة، كشيخ الإسلام ابن تيمية. كما أن أعظم علماء الدنيا المسلمين شهرة هم أفسدهم عقيدة وأشدهم زندقة كابن سينا. فهل كان الدين سببا في قتل الإبداعية والتقدم العلمي والمعرفي في العالم الإسلامي، كما كان دين النصارى المحرف السبب في تخلف العالم الغربي قبل الثورة عليه وإخراجه بالكلية عن شؤون الحياة؟
لا والله ما كان دين الله الحنيف سببا في تخلف أوليائه، ولكن العلوم علمان علم دين وعلم دنيا. فمن فرض علوم الدين على علوم الدنيا قتل الإبداعية في علوم الدنيا فأماتها وقضى على محرك التطور فيها، ومن خلط بين علوم الدين والدنيا تزندق غالبا، كعلماء المسلمين الأوائل من أهل الطب والفلك والرياضيات والكيمياء. وسبب ذلك أن أصل هذه العلوم الدنيوية هي الفلسفة والابتداع، وأصل الدين هو الاتباع والتسليم.
وبسبب الخوف من هذا الخلط، استخدم المفهوم الديني للاتباع والتسليم في الحجر على عقول الناس، فضاع مفهوم العقل والمنطق في المجتمعات الإسلامية. فترى المسلم العاقل الذكي الفطن - من بلاد فارس إلى بلاد المغرب - وقد أسلم عقله لغيره، كلٌّ يدعي أن شيخه هو الأمين الصدوق شيخ الشيوخ وحجة العصر، ولا عجب أن يحدث هذا إذ لم يُحكم المنطق.
ومتى ذهب المنطق زال مفهوم العدل، فالمنطق دليل العدل وحده الفاصل. ومتى زال العدل حل الفساد والإفساد. لذا فترى أن جامع تخلف المجتمعات الإنسانية جمعاء على اختلاف مشاربها هو الفساد الناتج عن الظلم. والفساد دائماً بدون استثناء ينبع من تحكم الرأي الواحد بحجة من الحجج، سواء أكان دينا محرفا كالنصارى أو فلسفة مثالية لا حقيقة لها كالشيوعية أو قبلية جاهلية كبعض دول إفريقيا السوداء.
الفساد وظلم الناس ما كان له أن يستمر في أمة من الأمم لولا أن مستفيدين منه أوجدوا له شرعية تُخضع الناس له. ولو كان هناك منطق عند هذه الشعوب لما قبلت هذه المجتمعات بهذه الشرعية الجائرة. إن المنطق هو دستور العقل، والعقل دليل الفطرة الصحيحة والفطرة هي دين الإسلام حنيفا، قال تعالى: (... فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ...) (30) سورة الروم.
إن مما سكت عنه أن الفاصل الذي يفصل بين الحق والباطل عند التأويل للنصوص هو المنطق الصحيح الصريح. وشاهد ذلك أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم من العشرة المبشرين وزوجه الطاهرة المطهرة - الذين اقتتلوا في الجمل وصفين كانوا جميعهم متأولين للنصوص الشرعية - وإلا فأين القاتل والمقتول في النار-، ولو حكموا المنطق لتجرّد التأويل مما قد يخالطه من سوء الفهم ولما خرجوا على أمير المؤمنين علي، ولما فُتح باب الفتن والاقتتال في الأمة، رضي الله عنهم أجمعين.