Al Jazirah NewsPaper Friday  23/04/2010 G Issue 13721
الجمعة 09 جمادى الأول 1431   العدد  13721
 
خواطر قلم!
د. عبد المجيد محمد الجلال

 

تبدو أحلام المثقف صاحب القلم الحر، والكلمة الصادقة، غير خافية على من يلامس إحساسه الداخلي، ومشاعره المتَِّقدة، وأفكاره ورؤاه الموضوعية والإبداعية. قد تتوارى حيناً، وتهجع آونةً، لكنَّها تظل حيَّة تترى في نفوس أصحابها في انتظار فرصة قد تأتي بعد حين.

هذه الأحلام ليست بطبيعة الحال في المادة، أو الأضواء والشهرة، وإن كانت مشروعة، بقدر ما هي في كينونة بيئة ثقافية غنية تعكس الأفكار والرؤى المجتمعية بشمولية أكبر، متاحة لكل صاحب قلم ورأي، للتعبير بكل أريحية عن كل ما يتصل بشؤون وطنه ومجتمعه، وكل ما هو حقُ وعدلُ. وللتعبير كذلك بإمضاءات قلمه، وسديم خياله، عن ترنيماته الإبداعية، وبذوره الفكرية.

من شرائط سلامة ومنهجية البيئة الثقافية، تأصيلها لشرعية الخلاف والاختلاف في المنظومة الفكرية الإنسانية، كقاعدة عامة تحكم مسارات المشهد الثقافي العام، لا تهُزها الأنواء، ولا تحركها العواصف، تُؤطر لِقيم الاحترام المتبادل بين النُّخب والتيارات الفكرية المجتمعية، بما يخدم في المحصلة النهائية مبادئ حرية الكلمة، وأدوارها المعرفية المطلوبة فكراً ونشراً وتسويقاً.

هذه الأحلام، أو الاحتياجات الثقافية، هي كذلك جزءٌ أساس من منظومة حقوق المثقف في وطنه، كإنسان، فالانتماء إلى الوطن ليس مجرد حالة وجدانية أو عاطفية، نتقمصها بنوعٍ من النزعة الطوباوية، بلْه هي جملة من المعاني والقِيم تتجاوز البعد الجغرافي، أو الديموغرافي، إلى مساحات وفضاءات أوسع بمضامينها الإنسانية والقانونية والثقافية والتاريخية، عبر عقد اجتماعي يستوعب كل الحقوق والواجبات تجاه الوطن، ويحفظ للإنسان في الوقت نفسه حقوقه الشرعية والدستورية، بحكم الانتماء والنشأة والحياة فوق ترابه.

وأشد ما يؤلم المثقف ويُحبطه أيما إحباط المزايدة على وطنيته، وتشويه معانيها ومقاصدها، الممزوجة بحكايات العمر، ودفاتر النضال، وعبق الحب والعشق والجمال، في خروجٍ واضحٍ عن السياق القانوني والأدبي لحيثيات الحوار والنقاش والمماحكة الجدلية. وهذه لعمري حيلة من كانت بضاعته كاسدة، وحجته واهية، ودعواه فارغة المضمون والمحتوى، ومنطلقاته مأزومة، وتكشف عن نمطٍ سلوكي انتهازي غير قادر على مقارعة الحجة بالحجة، والرأي بالرأي. ويستهدف فيما يستهدف تحوير بيئة الكلمة والحرف إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، وشخصنة الخلاف، بما ينافي بالكلية شرائط حرية الكلمة ومصداقيتها، ومقومات بناء مواطنة اجتماعية مرنة ومتفاعلة مع قضايا المجتمع. فالوطنية بمعانيها الكبيرة والقيِّمة أكبر وأعزُّ من أن تستخدم مطرقة يُضرب بها سندان الهوية الوطنية، لتحقيق أهداف وغايات ضيقة، وغير إنسانية، دون استشعارٍ لما يترتب على ذلك من تأزيم للحراك الثقافي المجتمعي، وإضعاف أدواره المعرفية، والحضارية.

على صعيدٍ واتجاه آخر فإنَّ مما يؤلم المثقف ويُحْبطه كذلك تسَّيدُ الأقلام المتطفلة، والعابثة، والثرثارة والمهذارة من غير معرفة، للساحة الثقافية، بأجندة لا تخدم أمانة الكلمة ومصداقيتها، ولا قضايا وهموم الوطن والمواطن، بلْه تسعى إلى تحسين ما لا يمكن استحسانه، أو تبرير ما لا يمكن تبريره، أو السكوت عما لا يمكن السكوت عنه. والادعاء بامتلاك الحقيقة بجوهرها الكامل المطلق.

هذه النوعية من الأقلام هي أشبه بالنباتات الطفيلية التي تستمد حياتها من عصائر النباتات العاملة، فتمارس أدوارها في عرقلة المشروع الثقافي الوطني في البناء وتعزيز المكتسبات، وتصويب العثرات، وتحسس القضايا والمشكلات، ومعالجة السلوكيات والممارسات الخاطئة.

ولعلَّ من أبرز إرهاصات هذه الهموم الثقافية الدفع بأصحاب الكلمة الصادقة إلى ما يشبه العزلة الثقافية، والتقوقع داخل دائرة الاغتراب في وطنهم، بكل تداعياتها النفسية والوجدانية على أنماط حياتهم، وأدوارهم الفكرية والأدبية. وفي هذه العزلة قد يجدون حياة للروح والفكر والجسد.

من مأثور الحِكم:

ليس مَنْ يكتب بالحبر كمَنْ يكتبُ بدم القلب.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد