في مغرب يوم الثلاثاء 7-4-1431هـ سبقنا في الرحيل عن دنيانا الفانية شيخنا وأستاذنا المربي والداعية عبد الرحمن بن عبد العزيز بن أحمد آل علي الناصري التميمي.. رحل رحيلا مرا تجرع مرارته وعانى غصته كل من عرفه وكل من زامله ورافقه فضلا عمن أحبه وألفه وصادقه وتتلمذ على يديه..كان صخب رحيله هائلا
بعكس حياته التي كانت هادئة بهدوئه الفطري وطبعه البريء وقلبه الرحوم وحسه الحنون وذوقه الرفيع ولسانه العفيف ومنطقه الفصيح..
ونعم الرجل هو: جمع صفات الرجال وتحلى بجميل الفعال وحاز العلوم وتفوق بدقيق المزايا وبرع في أخص الفنون.. رق طبعه فطرة ولما تخصص في اللغة العربية زاد رقة، كما قال الشافعي رحمه الله: (ومن نظر في اللغة رق طبعه).. ومع كل هذا فقد كان -يرحمه الله- قويا في جنب الله آخذا على نفسه زمامها وملزما لها على طاعة الله مداوما على السنن والمستحبات، غيورا على دين الله غيرة العلماء لا غيرة العامة، حاملا همّ الأمة حمل المسؤول، حملا ملازما له طيلة عمره في شدته ورخائه وفرحه وترحه وميسرته ومسغبته.. إذا رأيته ذكرت الله، وخير العباد من إذا رئي ذكر الله.. مكثرا من نفل الصيام ونفل الصلاة ونفل الصدقة ونفل المعروف ونفل البر في كل مجالاته..عاش حياته آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر وداعيا إلى الله ومربيا ومعلما خرج أجيالا؛ ومساهما في الجمعيات الخيرية، ومتعاونا فاعلا مع أئمة المساجد في أداء مهمتهم؛ ومع أهل الخير في إيصال الزكوات والصدقات للمستحقين؛ وكان يتحرى في ذلك تحريا عجيبا نابعا من ذمته النقية ودقته في تطبيق أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كان التواضع سمة تحليه في حياته العملية والاجتماعية والأسرية، فقد عرفته شابا وعرفني طفلا وعرفني شابا فكان تعامله وتواضعه واحدا لم يتغير، وعرفته مدرسا وقورا وعرفني طالبا -دون البلوغ- فلم يتغير وعرفته مدرسا وزميلا قد بلغ مرتبة من الخبرة والمكانة عالية فعرفني كذلك !! لم أشعر يوما بفوقية منه ولا تعال ولا مّنة ٍأو تفضّل، بل على العكس تماما فقد كان يسألنا عن بعض المسائل ويناقشنا في كثير من القضايا؛ وكان يبادلنا المزاح والنكات حول مواقف وذكريات أيام كنا طلابا وكان مدرسا، فتزيد الحميمية بيننا والألفة والمحبة؛ ثم عرفني مديرا فرأيت منه العجب العجاب تواضعا واحتراما وتقديرا وتعاونا قل نظيره، وأنا واحد من طلابه في سن أبنائه، فكنت أعجب من كِبَر عقله ورجاحة لبّه وسمو نفسه وعظمة ذاته. 8وكان له في الدقة قدح معلا واتصاف أسمى، عرف بها في كل ميدان وفي كل مجال، بدأ من مجالات عمله التي عمل بها إلى تخصصه -اللغة العربية- في مختلف فنونها؛ إلى سائر العلوم الأخرى التي كان له فيها اطلاع واستظهار وخاصة في علمي السيرة النبوية والتاريخ القديم والحديث، فقد كانت معلومته موثقة ونقله منضبطا؛ يطمئن له المستمع والمتلقي؛ ومع كل هذه الدقة العجيبة، فقد كان تعامله مع الآخرين سلسا مرنا يصطبغ بالسماحة والتغاضي والتنازل عن حظوظ النفس وحقوق الذات؛ وأما عاطفته وعقله فبينهما تفاهم عجيب ومثير فقد كان -يرحمه الله- يتمتع بعاطفة جياشة قوية -حساسة- يثيرها أدنى المواقف ويهيجها أصغر الأحداث، ينطبق عليه فعلا وقولا (صاحب الحس المرهف) ومع ذلك فقد كان عقله الراجح يتحكم تحكما ناجحا في هذه العاطفة ويوجهها الوجهة السليمة ويضع تصرفه في الموضع المناسب، بخلاف أولئك الذين يستجدون عواطفهم ويتصنعونها؛ وأولئك الذين تستحوذ عليهم العاطفة فتتحكم بهم وتوجههم..ولا أنسى ذلك الحزن وتلك الكآبة التي أصابته بسبب تراجع ذلك الشاب في استقامته وتدينه حتى وصل به الأمر إلى البكاء وسكب الدموع.
وكان -يرحمه الله- ذا روح مرحة ومزاح ظريف ونكتة دائمة يلقى بها إخوانه في كل مكان؛ في العمل وفي السوق وفي الطريق وفي النزهة؛ ولا يخلو اللقاء معه -ولو كان قصيرا- من نكتة بريئة أو مزحة عابرة فإن لم تكن فلا بد من ابتسامة راضية ووجه طليق يلقاك به ويودعك بمثله أو أحسن منه. وأما عفة اللسان فو الله إنه لمن أعف من رأيت وخالطت؛ لا يسب ولا يشتم ولا يجرح ولا يغمز ولا يلمز ولا يغتاب ولا ينم؛ بل ينكر ويرد على من يتكلم ويخوض ويأتي بالمعاذير والمخارج للمتكلم به حتى ولو لم يكن يعرفه.
وأما صفة البر فيه فصفة مطردة :
كان برا بأمه برا نادرا؛ يتلمس كل موطن للبر فيطرقه؛ عنده الاستعداد الكامل لبذل كل شيء في هذا المجال مهما بلغ؛ فقد ضحى بالعمل معيدا في كلية اللغة العربية من أجل أن يبقى عند أمه؛ وكان متابعا دقيقا لحالتها الصحية والنفسية وأدويتها المتنوعة؛ فقد كان يحدثني عن أدق التفاصيل في ذلك؛ وكان مداوما على زيارتها والتردد عليها عدة مرات كل يوم؛ حتى إنها ليلة وفاته لم تنم إلا فجرا تنتظره أن يأتي إليها على عادته؛ إذ كان يأتي إليها كل يوم بعد صلاة المغرب فإن لم يأت أتى بعد العشاء فإن لم يأت اتصل واعتذر بسبب سفر قصير أو شغل ملازم إلا أنه تلك الليلة لم يحصل أي شيء من ذلك.
وكان برا بأهله وأولاده يحسن رعايتهم ويتلمس حاجياتهم ويطلب راحتهم باذلا في ذلك جهده وماله ووقته؛ يسافر بهم ومعهم ويأنس بذلك؛ لا يتبرم ولا يضيق بل على العكس تماما؛ فأسعد أسفاره ما كان بصحبة أبنائه -بخلاف الكثيرين الذين يعدون السفر بالأهل والأولاد واجبا ثقيلا يفرحون بانقضائه- وكان برا بإخوانه وأخواته وقرابته وأرحامه وصولا بهم عطوفا على مريضهم حانيا على ضعيف قاضيا حاجاتهم.
وكان برا بأصدقائه وزملائه وإن قدم العهد بهم وطال الزمان دونهم وبعدت المسافات إليهم فكثيرا ما كان يذكر لي تواصله مع أصدقاء له من زملاء الدراسة أو زملاء العمل أو حتى الجيران الذين جاورهم في الرياض أو في رأس الخيمة يوم أن كان موفدا هناك؛ ويذكر لي شيئا من تبادلهم الزيارات والمهاتفات والمراسلات بينهم. وأما الأيام الجميلة معه والذكريات المنقوشة في ذاكرتي له؛ فتلك رواية كثيرة الفصول وسردها يطول وحقها أن تكتب بماء الذهب على ورق مصقول؛ وماذا عساي أن أقول وماذا عساي أن أترك من رواية صادقة؛ كل أحداثها مؤثرة ومواقفها معبرة ؟ وقد احترت طويلا هل أبوح لقلمي بكل تلك الذكريات ؟ أم أبقيها حبيسة القلب والعقل ؟ ولكن سأذكر هنا منها رؤوس أسطر أنفس بها عما بخاطري:
من أجمل الذكريات: أن أول رحلة لي إلى الديار المقدسة -مكة المكرمة -كانت بصحبته وأول ما تكحلت عيناي برؤية الكعبة المشرفة كانت برفقته تلك الرحلة التي جاء بعدها رحلات ورحلات نسيتها، وأما تلك الرحلة فلن أنساها ماحييت.
ومن تلك الذكريات : أن أول معرض للكتاب زرته كان برفقته وأول كتاب اشتريته كان بمشورته؛ وما زلت أذكر ذلك الكتاب ومازلت أحتفظ به في مكتبتي (كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله).
ومن تلك الذكريات: ذلك الإصرار منه -يرحمه الله -عليّ بالعودة إلى الدراسة في حلقة تحفيظ القرآن الكريم لما علم بانقطاعي عنها ومازلت أذكر كلماته وعباراته؛ حتى والمكان الذي خاطبني فيه في أروقة المعهد العلمي في الغاط. ومن الذكريات: مجيئه للصلاة معي في المسجد إذا قدم في الإجازات من رأس الخيمة يوم أن كنت إماما في مسجد الحي الشمالي في الغاط وفرحي بذلك اللقاء بعد غيبة طويلة؛ وكانت تلك اللقاءات لا تخلو -أبدا -من فائدة وتوجيه ورأي ونصيحة حول الدراسة الجامعية أو المسجد أو الدروس والمسائل العلمية. ومن الذكريات الجميلة: قراءتنا وإياه في كتاب (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي) وتعليقاته -يرحمه الله -اليسيرة على بعض المسائل؛ وتكليفه أحدنا ببحث بعضها وعرضها الجلسة القادمة؛ وأذكر أننا أنهينا المجلد الأول من الكتاب؛ وكان ذلك في عام 1413هـ.
ومن الذكريات اللطيفة : أنه قال لي ذات يوم بأنه وجد في أوراق آبائه القديمة أن أم جده (عبدالكريم) اسمها (غالية بنت بن عامر) وقال هل هي منكم ؟ فبحثت وسألت كبار السن في أسرتنا ولكن دون جدوى وتبين لي أنه لم يكن في الغاط في تلك الفترة في حدود (1250هـ-وما قبلها) أسرة تسمى العامر غير أسرتنا مما يرجح أنها من أسرتنا؛ وكنا بعد ذلك نتبادل بعض النكات والمزاح بين حين وآخر حول هذا النسب القديم.
والذكريات معه -يرحمه الله -لا تمل ولا تنسى.
وأختم حديثي هذا بهذه المعلومات القيمة عنه:
- هو: عبد الرحمن بن عبد العزيز بن أحمد بن علي بن عبد الكريم بن محمد بن علي بن محمد بن سليمان بن محمد بن ناصر الناصري التميمي.
- ولد -يرحمه الله - عام 1376 هـ في الغاط.
- درس المراحل الابتدائية في مدرسة الوسيعة في الغاط وبعدها التحق بالمعهد العلمي في الغاط وأكمل دراسة المعهد في الرياض.
- التحق بعد تخرجه في المعهد بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وتخرج فيها في 24-8-1399هـ.
- عيّن معيدا في كلية اللغة العربية في جامعة الإمام في 14-9-1399هـ.
- عيّن مدرسا في المعهد العلمي في محافظة الغاط في 1-12-1401 هـ.
- حصل على درجة الماجستير في النحو والصرف بتاريخ 15-10-1404هـ؛ وكانت رسالته دراسة وتحقيق كتاب (شرح قواعد الإعراب المسمى بأوثق الأسباب؛ لأبي عبد الله ابن جماعة الكناني المتوفى سنة 819هـ) وكانت بإشراف الأستاذ الدكتور محمد بدوي المختون.
- تم إيفاده إلى معهد العلوم الإسلامية والعربية في رأس الخيمة لمدة أربع سنوات ابتداء من 11-6-1408هـ.
- رجع للتدريس في المعهد العلمي في محافظة الغاط بتاريخ 3-3-1413هـ.
- عمل في جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -هيئة الغاط -متعاونا في الفترة المسائية خلال الأعوام 1404 و1405 و1406هـ وحصل لهيئة الغاط في هذه الفترة تطورٌ وتنظيمٌ واستقطابٌ للأعضاء وضبط ٌ لكثير من أعمالها.
- عمل في جمعية الغاط الخيرية عضوا في مجلس الإدارة في أكثر من دورة وأمينا عاما لها عدة سنوات.
وأخيرا أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا ممن قال عنه صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) رواه مسلم.
اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترحمه وتغفر له وأن تجمعنا به ووالدينا وأحبابنا ومحبينا في جناتك جنات النعيم.
* مدير المعهد العلمي في محافظة الغاط - إمام وخطيب جامع الأمير تركي بن أحمد السديري في محافظة الغاط