إنسان فريد، شديد الحذر، سامي الأخلاق، خشي أن يجره الإطراء الكاذب إلى ما لا تُحمَد عقباه من شائن السلوك أمام ضميره، وأمام المجتمع، فأنشأ تحت هذا الهاجس القوي، والشعور السامي، ليقول:
|
أخافُ على نفسي ثناء مجاملٍ |
فطوبى لمن ينجو من المدحِ والقدحِ |
أفضِّل هجواً سافر الوجه صادقاً |
على المدح يخفي النصل في بسمة الفجرِ |
بالذات عندنا، قليل من الناس من يقبل النقد المكشوف، أو لنقل المكاشفة والمصارحة، والشفافية إلا من كان على درجة عالية من الثقة، والثقافة، وإنكار الذات. أما (المديح الكاذب) فما أكثره عندنا نحنُ العرب نُصفع ونمدح، ونهان ونمدح، ونُزدرى ونمدح، ونُقتل ونمدح.
|
نرقصُ هازئين على المشاعر المزيفة، التي صُودرت فيها الأنفة والعزة والشموخ والإباء، إلا من القواميس اللغوية المتورمة بأنواع المترادف من اللفظ.
|
نعم، صودرت وبقي الغناءُ فيها بالساحات والقنوات الفضائية التجارية، تردد في ألفاظ، ومعانٍ، وصور لا تتجاوز زمانها ومكانها، أو أفواه قائليها، ومن كان في مستواهم.
|
زاد من تأصل الظاهرة تصديق أنفسنا، ومخادعتنا لبعض، وتوهمنا بتحقيق الأمجاد، والإنجازات، والابتكارات، وكرّس من ذلك كذلك (المدارس الإنسانية المعاصرة) التي عدّت ذلك من ضروب الاتصال الفعّال، والتواصل الإنساني المحمود، حتى وصل بنا الحال إلى أن سمعنا - منذ القدم - من يحاول احتكار أساليب المديح، وصيغه، وقوالبه التعبيرية الأدبية، بل وعطاياه أمد الدهر، و(المتنبي) على قائمة المبتدعين والمستأثرين بهذا النمط، حين يقول:
|
أجزني إذا أُنشدتَ شعراً فإنما |
بشعري أتاك المادحون مرددا |
مات (المتنبي) وأرث في هذا النهج المخادع شعوباً كاملة، تجارية الأخلاق، وأصبح هذا النهج مدرسة تخرّج أجيالاً تدرسُ هذه الثقافة المريضة التي زيّفت أخلاقنا، وقيمنا، وعاداتنا، وتقاليدنا، وسلوكنا، ووصل بنا حدّ الإسفاف بالقول، واستساغة ذلك المنهج أن أصبحنا نحاسب ونعاقب، ونعضل ونهجر من لم يتزيّا بهذا الزي الخادع والعاري من صدق العواطف. وقد أوصلنا هذا السلوك إلى جرأة أضلّت صاحبها حتى عن الدين، ولم نستغرب هذا النشوز في بعض المعاني على هذه الشاكلة من القول:
|
خُلقتَ مبرأً من كل عيبٍ |
كأنك قد خلقتَ كما تشاءُ |
لو أن كل إنسان أنصف نفسه، وصدق معها بوعيٍ تام وتجرد مطلق لاكتشف هذا الداء الخبيث المتورّم، وجهد في استئصال أسبابه ودوافعه، ولحاول هو بنفسه قدر الإمكان أن ينأى بالآخرين عن ممارسة التضليل، والاستخفاف بالعقل البشري، لكننا -إلا القلة- نطرب لذلك ونسعد، ونوحي للآخرين خلاف ذلك، فهل لنا وقفة أخرى مع هذا السلوك، ووجهنا المديح لأهله الحقيقيين، ولو سرنا ضد التيار؟
|
|