.. وأحاديثي المسهبة أو المقتضبة عن (البنيوية) أو (التحويلية) أو (التفكيكية) ليست نفياً لها، وإنما هي محاولة لقمع أثرتها وكشف لوهم الآخذين بعصمها دون استيفاءٍ لمحققاتها ولا قدرة على استعمالها كما أريد لها،
ومحاولة لتلمس جذورها الفلسفية ومدى انعكاس ذلك على النص المقدَّس، وهو ما صُدمنا به في ممارسات «نصر حامد أبي زيد» ومَنْ سايره، ممن أوغلوا في تدنيس المقدس أو أنسنة الإلهي كما هو عند (أركون).
والمستجد الغربي يحتاج إلى استقبال واع يحدد الحاجة والمشروعية ومن ثَمَّ لا يُستقبل بصغار مهين، ولا يُنْفَي بأنفةٍ زائفةٍ، وما هو في النهاية إلا خطاب تستوعبه الحضارة الإنسانية بوصفها وعاء لكل الحضارات.
وحق الحضارة الإسلامية أن تبحث عن الحق بوصفه ضالتها، فما قامت الحاجة إليه وكان من المباح الممكن وجب تلقيه وإذابته في الكيان الحضاري؛ ليكون نسيجاً لا رقعة فاقعة اللون غريبة الشكل. وعيب المشهد النقدي أنه أصبح كطيلسان ابن حرب الذي طغت فيه الرقع؛ حيث لم تُبْقِ على الشكل ولا على اللون الأصليين، وهذا من المسخ المخل بأهلية الوجود الكريم.
والتحوُّلات الحتمية لمركز الكون النقدي تستدعي التعديل والتبديل في الآليات والمناهج، فهيمنة المبدع لا تصلح له مناهج اللغة وآلياتها، وهيمنة النص لا تصلح له مناهج التاريخ الأدبي، وهيمنة المتلقي بحاجة إلى آليات ومناهج تمكنه من إنتاج الدلالة التي تُساوره. ولقد اتهم (المتنبي) (ابنَ جني) بأنه يقوِّله ما لم يقل. ولقد يمر بشُرَّاح شعره وهم يتعمدون تحريف الكلم من بعد مواضعه، ثم لا يجد بداً من الانصراف دون استدراك أو تصحيح مردداً:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
والنقد اللغوي الذي نحن بصدد الحديث عنه لم يعد ترفاً نقدياً، وليس من السهل السيطرة عليه، وقد أصبح نظرية ضاربة الجذور، وليس هو أضعف المناهج ولا أقلها خطورة، وبدونه لا ينتزع النص والمتلقي حقهما، غير أن هذه المميزات لا تمنحه العصمة ولا الحصانة ولا تخوله الاستئثار بالمشهد، كما يود المتعالقون معه. وبقدر خطورته وأهميته تكون المراجعة والمؤاخذة. وكيف لا يكون النقد اللغوي مهماً؟ هو قسمة بين النص والمتلقي، وهما ركنان أساسيان في سائر العمليات الأدبية إبداعاً ودراسة. والمتلقي لأي نص لا تتحقق سيطرته على النص ولا يتوفر على حقه إلا بآلية اللغة ومناهجها، ثم إنَّ الأدب لغة، بل إنَّ الإنسان لغة، والله إذ علَّم آدمَ الأسماء كلها، وعلم بالقلم علَّم الإنسانَ ما لم يعلم، أراد أن يعلي من شأن اللغة، وأهميتها تضفي على مناهجها الأهمية ذاتها، ومعاذ الله أن نقلل من شأن تلك المناهج، ولكننا نكره الأثرة، ونمقت الادعاء، ونحبذ التفسح لكل المناهج والآليات. وأيا ما كان الأمر فإن حِدَّة المناهج اللغوية وحدِّيتها وتلقيها خالصة من الغرب دون تحيز للتراث أو تحرف للتعريب أذهبت ريح الفن، وشوهت جمالياته، وقطعت أوصال النص، ونفت ما سوى اللغة. ثم إنَّ تعدد المناهج اللغوية وتنازع البناء والشكل والدلالة أيقظا الفتنة داخل المنظومة اللغوية، والاشتغال بالبناء الأصم أوغر الصدور المهتمة بعلم الدلالة. والذين شغلتهم الدلالة أوغلوا في هلاميات وفرضيات حاولت التأسيس لدراسة الدلالات، وفرضيات حاولت التأسيس لتحليل المعنى إلى عناصر دنيا، والبحث عن مجالات لعلم الدلالة كالتسمية والتصور والحس والإشارة والسياق والمقابلات والتضام.
ولو ذهبنا نستعرض فهارس الكتب التي تناولت علم الدلالة لما انتهينا إلى حد، وماذا لو استعرضنا تشقيقات الشكلانيين والبنائيين والتقويضيين ثم ارتهنا النص الإبداعي لها دون تحفظ؟ إنها متاهة يفقد معها الأدب أدبيته والشعر شعريته. والنص الإبداعي يستمد أهميته من الجمال الصوتي والصورة البلاغية الأخاذة ومن المجاز والإيجاز، والمنهج اللغوي لا يلتمس هذه المؤثرات بل يتخطى ذلك إلى مقاصد لا يعلمها إلا العالمون بدخائل تلك المناهج ومآلاتها. والتفكيك لا يحافظ على تلك الجماليات وإن تمكَّن من تجلية دلالات خفية، ومع هذا التحفظ والاستدراك فإننا لا نمضي مع المناوئين للمناهج اللغوية بدافع الانتماء لمناهج أخرى؛ فالمبالغة في التوهين تُفْقَد معها المصداقية، وما كنا مؤاخذين إلا بقدر ما يحفظ التوازن بين المناهج، وإذا كنا نقبل المنهج الاجتماعي كما هو عند (طه حسين) والمنهج النفسي كما هو عند (العقاد) والمنهج الثقافي كما هو عند (فِنْسنْت لينش) والنقد الظاهراتي والتكويني عند غير هؤلاء فإننا لا نقبل استئثار أي منهج بالمشهد النقدي؛ فالنص الإبداعي عوالم متعددة، واستكناهه لا يتم إلا من خلال مفاتيح كثيرة، والنقد الألسني حين يستأثر بالنص يُفقده عوالمه التي لا تقل أهمية عن عالمه اللغوي، وعلى الرغم من أهمية النقد اللغوي إلا أن الأهمية لا تخول المتلبس به الاستخفاف بما سواه؛ ذلك أن النص حقل متعدد الرؤى والتصورات والعوائد، ولكل عائد وسائل اكتشافه والتقاطه، وإذ تكون بوابة الحقل هي اللغز فإن مناهجها هي الأهم، والأهمية تؤخذ بقَدْرها، وليس من حقها الاستئثار بالنص، ولا نفي ما سواها من متعلقات النص بوصفه عالماً من العلاقات.
وما كان من مقاصد التقصي للسلبيات تنحية هذا المنهج. ولقد أشرت من قبل، وليس من باب التكرار ولا المعاد، أكثر من مرة إلى أننا مع المناهج كلها متى عدلت في اقتسام المهام، والذين يستحوذ عليهم التعصب يقوِّلون خصومهم ما لم يقولوا، ويتهمونهم بجهل الأهمية أو بتجاهلها. وقد يكون ذلك صحيحا بحق مَنْ يمارسون التعصب المذهبي المضاد، ومن حق المشمول بهذا الاتهام ظلماً وعدواناً أن يدافع عن نفسه، وأن يتحامى المجاراة في الاتهام؛ لأن في ذلك تصعيداً لفضول القول، وتأزيماً للمواقف. والمشهد النقدي بما هو عليه من فوضى وتنازع لا يتطلب المزيد؛ فالمناكفات حيدت النص وعطَّلت فوائده، وألهى النقاد ما هم عليه من تنازع البقاء، ولقد عيب على النقاد استهلاك التاريخ والتنظير لجهودهم، فيما قل الاهتمام بالنقد التطبيقي الذي يرشِّد الإبداع والنقد معاً، ولذة النقد في اكتشاف غياهب النص وتوليد الدلالات وتقويض البنية لاستخراج كوامنه واستخدام كل ما أمكن استخدامه من المناهج والآليات، فالنص كون كامن على خامات وطاقات لا يجوز التفريط بها في سبيل التحيز لمنهج أو مذهب.
والتنقيب عن السلبيات لا يحملنا على بسط القول عن مناهج النقد اللغوي ولا الإشارة إلى تحولاتها المتلاحقة، وإن كان بودنا أن نقدمها كما هي لكي تكون بين يدي القارئ، ومثل هذه الرغبة تمتد بنا إلى الكشف عن مصادرها وجذورها الفلسفية، وأحسب أن ذلك من المعهودات الذهنية عند الذين يحملون همَّ الحركة النقدية، وما نود تناوله ما يعرض لتلك المذاهب من هنات هي فيما أرى من نقص القادرين على التمام، والمشهد النقدي حين لا يتشايل ذووه يتعرض للذبول والضمور، ومشهدنا المحلي بتواصله مع كافة المشاهد وتوافره على قدرات استثنائية وانفتاحه غير المشروط على سائر الخطابات بأمسّ الحاجة إلى مَنْ يضبطون إيقاعه ويوجهون مساره ويباركون خطواته.
وليس في المراجعة والمساءلة والنقد ما يدعو إلى الخوف والتذمر، ولاسيما أن طائفة من النقاد المتنفذين متحفزون للمبادرات والتبني للمستجدات، وقد لا تتوافر لبعضهم الإمكانيات الكافية للفرز والاختيار السديد. والألسنيات المتعددة والمتنافرة التي اقتحمت مشاهدنا بمصطلحاتها الهلامية أنستنا ما كنا عليه وما خلفه الأسلاف، مما لا يُستغنى به ولا يستغنى عنه.
ولقد يكون من فضول القول الحديث عن جهود العلماء الأوائل، وهي - على ما هي عليه - تمثل قواسم إنسانية تخولها الوجود المشترك وليس الوجود المستبد كما يحلو للبعض، وكان يجب حين حلَّت بمشاهدنا أن نلتمس فيها ما نحن بحاجة إليه، وأن نعيد قراءة تراثنا للمواءمة بين الطارف والتليد؛ فالمذاهب المستجدة حين تخترق أجواء الثقافات القائمة لا يُلبسها لبوسه إلا إذا كانت مصابة بداء القابلية للتبعية على ضوء نظرية (مالك بن نبي): «القابلية للاستعمار»، وما عمدت إليه من تحذير لم يكن الأول، والتخوف من هيمنة الآخر يساور المفكرين الجادين، ولقد أشار صاحب (دليل الناقد الأدبي) إلى الرغبة في «تنامي المثاقفة النقدية الأكثر اتزاناً ونزوعاً للإبداع».
وفي غمرة الاستياء والتحذير من مغبة التهافت نود الإشارة إلى أن شطراً من (الألسنيات) تلقفها مَنْ هم أهل للتلقي والتفاعل ممن كان لهم باع طويل في التأصيل المعرفي والتطبيق النقدي، وهذا التفوق والتألق الذي بادر إليه المغاربة وقليل من المشارقة المعاصرين لا يمكن أن يصرف أنظارنا عن إخفاقات موجعة مست المشهد النقدي بالضر، وهي إخفاقات منشؤها اللجاجة والاهتياج الأعزل.
ونحن إذ نسلم بتفوق الغرب وتمكنه من المأسسة والمنهجة فإن ذلك حافز للاستثمار لا للاستسلام، ونحن أحق باقتفاء الأثر واستشراف المستقبل، وطلابنا المبتعثون وعلماؤنا المترجمون ونقادنا المتابعون خير مَنْ ينهض بهذه المهمات وينهي زمن التيه وفترة الانبهار والتبعية.
ولن نتوافر على المصداقية إلا إذا نظرنا إلى مشهدنا بعين الناقد البصير المنصف؛ فليس كل نقادنا مخفقين، وليسوا كلهم تبعيين؛ لقد كنا ولما نزل على موعد مع مبادرات تطبيقية أثرت النصوص وأغدقت على المشاهد بلفتات ذكية، وكان لبعض الوافدين العرب أثر لا يستهان به وإن تلقف رؤية بعضهم مَنْ لم يقف حيث يجب الوقوف. ومهما كان الأمر فلا بد من أن نشير إلى إسهامات جليلة من لفيف من الأساتذة، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ الدكتور لطفي عبدالبديع وعبدالسلام المسدي ومنذر العياشي، كما أشير إلى نقاد محليين سيطروا على مناهجهم في بعض ما ذهبوا إليه، وكانوا قد تلقوا تعليمهم في أمريكا وأوروبا، وجمعوا في دراساتهم بين التنظير والتطبيق، وأسهموا في الترجمة. ومشهدنا النقدي له وعليه؛ شأنه شأن كافة المشاهد العربية، ولكننا إذ نرى تجلياته من الواجبات فإننا نرى إخفاقاته من نقص القادرين على التمام.
والمؤمَّل أن تكون هذه الورقة بمثابة المدخل لما سبق من دراسات كتبتها أو ألقيتها في فترات متباعدة عن سائر الألسنيات سواء منها ما كان تنظيراً أو تطبيقاً أو مناوشات مرتفعة النَّبرة مع إخوة أُكنُّ لهم الاحترام وأُدين لهم بالفضل.
وإن فُهمت على غير مرادي فإن أملي أن يعيد المرتابون نظرهم؛ فنحن في زمن أحوج ما نكون فيه إلى الوفاق. ولقد قرأت في ملامح البعض الرغبة الملحة في رأب الصدع والتعاون على البر والتقوى، وتلك مبشرات ما كنا نود تأخرها إلى هذا الوقت.