الحمد لله دوما وأبدا, الحمد لله وإن عظم الألمُ وطال البلاءُ, الحمد لله مهما كبر المصابُ وازداد العناءُ, الحمد لله وحده فلا يُحمد على مكروه سواه، له ما أخذ وله ما أبقى، ولا باقي إلا وجهه الكريم. للبشر في هذه الحياة آمال عراض وأمنيات حسان لا ساحل لها ولا قرار، وربما نسوا أو تناسوا في سكرة أحلامهم أن يد القدر تتربص بهم حيث تنال منهم على حين غرة فتختطف لحظات الصفاء، وتغتال أوقات الهناء، فكم أمسينا على حلم ثم أصبحنا على ألم، وقد نبيت على أنس وأفراح ونصحو على طعن المصائب ووقع الجراح، ولولا لطف الله ورحمته وتثبيته لهلكنا أسى ووجعاً, ولكن هكذا قضى الله في هذه الدنيا؛ فهذا طبع الأيام في تقلبها؛ فما سُمع أنها صفت لكبير ولا صغير, سيشرب الجميع منها كدراً وطيناً, وسيستظل البشر - كل البشر - بشمس الرزايا، وسيبتل أهل الدنيا بمطر المصائب، فمنّا السابق ومنّا من يلحق، والجميعُ سيموتُ، ومن يضحك اليوم فهو لا شك باكٍ غداً، ونوافذ المنايا مُشرعة ترمق لنا جميعا بعين مشتاق، والأقدار قد نصبت فخاخها وأشراكها، وها هي ذا تصطادُ وتقتنصُ، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
|
دارٌ كل ما أضحكت في يومها |
أبكت غداً قُبحا لها من دارِ |
في ليلة قد صفت سماؤها وسكنت رياحها وكادت أن تسكن قلوبنا فيها فارقنا الشيخ الفاضل عثمان بن عبدالله العتيق قاضي التمييز ورئيس المحكمة المستعجلة في الطائف سابقا، وبوفاته طويت صفحة بيضاء مشرقة من كتاب الكرم، وأفل نجم مشع في سماء الإحسان.. وصرح شامخ من صروح العطاء هوى ولكنه لم يزل يسكن سويداء قلوب محبيه.
|
كذا فليجل الخطبُ وليفدح الأمرُ |
فما لعينٍ لم يسل ماؤها عذرُ |
ثوى طاهرُ الأردان لم يبق بقعة |
غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ |
والحديث عن رجل بقامة الشيخ عثمان - رحمه الله - يحتاج إلى استحداث مفردات جديدة تكافئ قدرَ من أتحدث عنه، لكنها مشاعرٌ أبت إلا أن تظهر وتشرح، وكلماتٌ استنهضها القلبُ فانطلقت لتُعبّر وتُفصح..
|
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض |
فحسبك مني ما تُكن الجوارح |
سأكتب وأنا في حالٍ من الألم لا يعلمها إلا الله؛ فالحزنٌ قد دكَّ أسوار قلبي، وصعّب من مهمتي قلمٌ يتوارى خجلاً أمام سيرة الشيخ.. فالحديث عن رجل بقامة الشيخ عثمان - رحمه الله - تصاب الكلمات معه بالإعياء، وتتقاصر معه المفردات، وتتوارى الكلمات خجلاً من كتابة تأبين يناسب قدر هذا الرجل..
|
يقولون لو سليت قلبك لارعوى |
فقلت وهل للعاشقين قلوب؟ |
وقد عرفت الشيخ - رحمه الله - عن قرب، فهو رجل فاضل قد انصرف عن الدنيا وحطامها وتوجَّه بكليته نحو الآخرة يبذر ويزرع ويتعاهد الزرع.
|
إنّ لله عباداً فُطنا |
طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا |
نظروا فيها فلما علموا |
أنها ليست لحي وطنا |
جعلوها لجة واتخذوا |
صالح الأعمال فيها سُفنا |
فكم بنى من مسجد، وكم أقال من عثرة، وكم رعى أرملة وكفل يتيمًا..
|
تعود بسط الكف حتى لو أنه |
أراد انقباضاً لم تطعه أنامله |
وكان مداوماً - رحمه الله - على الصلاة، محافظاً عليها، قد تعلَّق قلبه بالمساجد؛ فلم يترك صلاة الجماعة إلا بعد عجزه التام. كان يتهادى إلى مسجده وهو الشيخ الكبير العليل في الحر وشديد القر.
|
تهون علينا في المعالي نفوسنا |
ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر |
وكان - رحمه الله - مدرسة في حسن التعامل، وآية من الآيات في التسامح والعفو والاعتذار للآخرين عن الزلل والخطأ.
|
رجل لا يجري على لسانه إلا الصدق، ولا يخشى في الحق لومة لائم، متواضعا متطامن النفس خافض الجناح موطأ الأكناف، في خلقه لين، وفي صدره رحابة قلما تجد مثيلا لها.. وجه جميل، نور الإيمان يكسوه، صورة مليئة بالوقار والتواضع، أعاننا الله على فراقه، وجبر كسرنا ومصابنا في فقده:
|
تعاودني ذكراك كل عشية |
ويؤرق فكري حين فيك أفكرُ |
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي |
أفسر ماذا والهوى لا يفسرُ |
تأخرت يا أغلى الرجال فليلُنا |
طويلٌ وأضواء القناديلِ تسهرُ |
نال منه المرض آخر عمره - رحمه الله - وأنهكه، ومع ذلك ظل صابراً محتسباً حمولا للنائبات جلدا على مضِّ المرض، لا يفتر لسانه عن شكر الله وحمده على ما أعطى ووهب.. متمثلاً بقول الحبيب عليه الصلاة والسلام الصحيحِ (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتّى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئةٌ).
|
نعم رحل الشيخ عن الدنيا، ولكنه سيبقى حاضراً في قلوبنا بآثاره الطيبة وصفاته الكريمة.. سيبقى حاضراً بوجود أبناء وبنات له بررة..
|
الابن ينشأ على ما كان والده |
إن العروق عليها تنبت الشجر |
وقد سرى عنا الهم وعزانا فيه ما رأيناه من حسن الثناء عليه والدعاء له من الصغير والكبير، ذكراً وأنثى، وتلك عاجل بشرى المؤمن. إلى رحمة الله يا صاحب النفس الطاهرة، ونحسبك قد استرحت في روضة من رياض الجنة، ونسأل العزيز أن يجمعنا وإياك في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
|
|