* جاءت استضافة الشيخ الدكتور (أحمد بن قاسم الغامدي)، مدير عام هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة، في نادي الطائف الأدبي الثقافي مساء يوم الأحد 4 أبريل الحالي، تحت ضغط حالتين.. الحالة الأولى: هي ما سبق للضيف من آراء وأطروحات خاصة به، حول مسألة مفهوم الاختلاط، التي هي مسألة فقهية خلافية معروفة.. الحالة الثانية: ما تواتر من أخبار حول حوادث وصدامات وقتها، قيل إنها وقعت بين رجال هيئة في المدينة المنورة وتبوك وغيرها، وبين مواطنين ومواطنات في تلك الجهات.
* ومع أن محور الحديث في تلك الأمسية الطائفية الجميلة، كان حول: (علاقة الهيئة بالمجتمع.. كيف؟).. كيف كانت في ماضي الزمان..؟ وكيف هي في حاضر الزمان..؟ وكيف تكون في مستقبل الزمان..؟ إلا أن الضيف الهيئوي، أسهب في الحديث عن العلاقة الآنية بكافة جوانبها، الشرعية منها والأخلاقية والإدارية ونحوها، حتى استغرق كل الوقت المقرر - ربما بقصد منه أو بغير قصد - فلم يعد بعد ذلك مجال لقلب صفحة حاضر الهيئة، إلى صفحة ماضيها، أو حتى صفحة مستقبلها، الأمر الذي جعل الكثيرين من ضيوف الأمسية، يتسامرون بعدها ليتذاكروها، ثم ليتبادلوا الأحاديث حول ماضي الهيئة الذي كان في سنوات خلت، ويتطارحوا كذلك أمنياتهم بما يتوقون إليه من علاقة جديدة بين الهيئة والمجتمع، تقوم على الاحترام المتبادل، وتقدير المسئولية لموظفي هذا الجهاز الحكومي.
* يهمني في هذه الأسطر المتبقية، أن أقول - أو أنقل - ما لم يقله الدكتور الغامدي عن صفحات مشرقة من صفحات الهيئة في الزمن الجميل - كما وصفه بعض الأصدقاء المتثاقفين في الشأن الهيئوي بعد الأمسية إياها - كان هذا الزمن الجميل المضيء المشرق، قبل بزوغ ليل الصحوة البهيم.. كان رجال الهيئة ينطلقون من مراكزهم بعد الأذان، في طريقهم إلى المسجد، بدون عصي أو بواكير أو مايكروفونات.. كانوا يبدون هاشين باسمين، تحف بهم رحمة رب العالمين، إذا مروا بالحوانيت، رددوا عبارات من مثل: (صلوا يا عباد الله.. هداكم الله)، يرددون ذلك وهم سائرون لا يلتفتون في أحد، ولا يقفون على رأس تاجر أو رجل في الشارع، حتى لا يروعوه أو يحرجوه.. يدخلون المساجد مع العباد، فإذا قضوا من صلاتهم عادوا من طريقهم إلى مقار أعمالهم، لكنهم هذه المرة، يقفون باسمين أو ضاحكين ومتحدثين مع هذا أو ذاك، وقد يقف أحدهم على باب حانوت، ليس مؤنباً أو مقرعاً لأنه ربما لم يقفل وقت الصلاة، ولكن.. ممازحاً صاحبه أو شارياً منه، وقد يحلو لبعض الباعة، دعوة رجل الهيئة لتناول الشاي معه، فيدخل ويجلس معه على صندوق شاي خشبي، يحتسي الشاي في تواضع وتلطف ليس له مثيل.. هذا والله؛ أقوله من خبرة ومعايشة ذاتية، كان يحدث أمامي في دكان لخالي -رحمه الله- في العزيزية بالطائف، وسمعت مثله أكثر من مرة من أكثر من واحد، ومثله كان يحدث في مدن كثيرة في أنحاء المملكة.. لا يستطيع أحد ممن عرف هذا، أن ينكره أبداً.
* صورة أخرى من صور الزمن الجميل للهيئة، أنقلها عن صديق رواها عن أبيه وأيدها آخرون، يقول: كان بعض رؤساء مراكز الهيئة في الطائف في تلك السنوات قبل سواد الصحوة، يتلقون بلاغات من مخبرين عن حالات أو مخالفات سلوكية هنا وهناك، وقد يحدث أن يأتي أحدهم لرئيس المركز شاكياً فلاناً من الناس - قد يكون جاره - بأنه يقيم هذه الليلة في مكان كذا، ليلة حمراء، فيها نساء وخمر ونحو ذلك، فيطلب منه رئيس المركز، موافاته في ساعة محددة بعد العشاء، ثم يبعث من فوره للمشكي، من يحذره بأن الهيئة تعلم ما لديه، وأنها سوف تداهمه مع رجال الشرطة، فإذا جاء الشاكي، انطلق موكب المداهمة وهو معه حتى باب المشكي، فإذا دقوا عليه بابه، وجدوه نائماً، وإذا فتشوا داره، لم يجدوا شيئاً مما أخبر به المبلغ، عندها.. يؤنب رجل الهيئة الشاكي بقوة على رءوس الأشهاد في المكان نفسه، ومن ثم.. يحذره من معاودة هذه الفعلة، التي فيها تجسس وغيبة وظلم وافتراء، ولكن رئيس الهيئة لا يغادر، حتى يطلب من المشكي، موافاته من الغد في المكتب، فإذا جاءه؛ أنّبه هو الآخر وحذره، وذكّره أنه أنقذه من تهلكة بأمل توبته، ثم بصّمه على تعهد بالاستقامة والالتزام وعدم العودة لمثلها، وهكذا.. درأ هذا الرجل الحكيم، شراً عن رجل وأسرة وحي وأمة، وقطع دابر التجسس وتصفية الحسابات من قبل الشكاوى التي تقوم في العادة على الكيدية والارتشاء والمنافع المادية، ثم كسب بذلك، ودّ وثقة مُبتلى، وردعه بالحكمة والموعظة الحسنة والستر، الذي هو شعار وعنوان لكل عمل صالح خالص لله.
* حدث هذا في سنوات مضت.. فهل تتكرر هذه النماذج الرائعة، في جهاز الهيئة في المستقبل..؟
* كان هذا هو سؤال من تمنى أن يسمع المزيد من ضيف نادي الطائف، فالناس - كل الناس - يعرفون جيداً أنه ليس من مسئوليات رجل الهيئة ولا من أخلاقه كذلك، أن يتجسس على خلق الله، ولا أن يرشي من يتجسس ويتحسس في المنتجعات والمطاعم والأسواق، لكي ينقل ما يرى ويسمع لرجل الهيئة بالجوال وغير الجوال، ولا أن يضيّق على الناس في أسواقهم وفي أماكن نزهاتهم، ولا أن يسب أو يشتم ويركل ويضرب، أو يقيد ويسجن رجلاً أو امرأة.. لا.. هذا بكل بساطة، ليس هو من عمل الهيئة، ولا من أخلاق رجالها، ولا هو من سياسة الدولة تجاه مواطنيها، فهي التي تسهر على راحتهم، وتدافع عن حقوقهم، وتدفع عنهم غوائل الخوف من أي مصدر أتت، حتى لو كانت من موظف كبير أو صغير في الدولة ذاتها.
assahm@maktoob.com