جمع الإسلام القبائل العربية المتناحرة على دين واحد.. فخرجوا على قلب رجل واحد يدعون إلى الله ويبشرون بالإسلام الذي اعتمد في انتشاره على عدة وسائل منها الجهاد.. ومنها وسيلة قديمة عرفها العرب قبل الإسلام وهي التجارة، حيث كانوا ينقلون منتجات الشرق والشمال من فارس والروم إلى الجنوب والغرب اليماني والحبشي وبالعكس.. وهذا ولّد بدوره عناصر حضارية ميزت الجزيرة العربية قبل الإسلام فاشتهرت أسواق عكاظ والمربد وذي المجاز وغيرها.. وكان للعرب مكان واحد يقصدونه للحج ولعرض إبداعهم الشعري.. وخصصوا له جوائز ثقافية سميت بالمعلقات.. واعتمدت بعض مناطق الجزيرة العربية على مناطق أخرى في تكامل زراعي حرفي تجاري قل نظيره رغم عدم قيام دولة واحدة تشملهم جميعاً.. ولعل انشغال الفرس والروم بحربهما معاً أتاح الفرصة للجزيرة العربية أن تنمو مستقلة بعيداً عن أي تدخل أو أطماع خارجية.. واكتفت الدولتان بكسب ولاء القبائل المتاخمة لهما أو التي تحرس تجارتهما على الطرق داخل الجزيرة العربية.
والمطلع على تاريخ صعود وازدهار الحضارة العربية الإسلامية يدرك أن التجارة لعبت دوراً محورياً في تأسيس تلك الحضارة خلال مراحلها المختلفة.. فالتجارة لم تتح للعرب زيادة ثرواتهم فقط، بل عرفتهم بحضارات الجوار.. وطرق التعامل معهم.. ووسائل جذبهم وتبادل المنافع معهم.. والاستفادة مما لديهم.. ومعرفة أساليبهم في إدارة شئون حياتهم وتطويرها.. كما نمت لديهم ثقافة قبول الآخر واحترامه.. إلى غير ذلك من الخصائص التي لا تقوم الحضارات إلا عليها.
فالدين الإسلامي بثّ الروح ونظم الجهود وأهلّ الكوادر المتحمسة له.. وجمع قبائل الجزيرة العربية وجهزهم تحت مظلة أكبر من مظلة القبلية التي كانت مهيمنة على الفكر والمعيشة المجتمعية قبل الإسلام.. مع تطبيع الناس بمثاليات الإسلام الحقيقية من حسن خلق واستقامة وإيثار وسعي وجد ومثابرة.. وترجيح المصلحة العامة والتفكير الجمعي على الفكر الفردي الأناني.. كل ذلك استفاد منه قادة الدولة الإسلامية (العربية) حديثة التكوين.. وشيدوا دولة عظيمة مترامية الأطراف حتى قال أحد خلفائها (هارون الرشيد) لغيمة في السماء: (شَرَّقي أو غَرَّبي فسوف يأتيني خَرَاجُك).
خلاصة القول إنه لم يكن للعرب حتى نزول الإسلام مشروع حضاري.. وما أن جمعهم الدين حتى انطلقت حضارتهم تشع نوراً وهدى وخيراً ونماء على العالمين.. ووصلت ذروتها في العصر العباسي.. ثم خبت تلك الحضارة وانكفأ العرب على أنفسهم ودخلوا في سبات عميق لحقبة امتدت ألف عام حتى اليوم.. فما الذي تغير؟.. وما الذي أشعل جذوة حضارة العرب المسلمين وعلومهم أربعمائة عام وما الذي أطفأ وهجها إلى اليوم؟.
بالطبع ليس الإسلام.. فالإسلام الذي كان دافعاً لإنشاء الإمبراطورية العظيمة لا يمكن أن يكون دافعاً لسبات طال حتى فاق سبات أهل الكهف.