حقيقة الدعوة السلفية هي اتباع السلف في فهم نصوص الكتاب والسنة. فهم أقرب إلى عصر النبوة وأعلم بمقاصد الشريعة. وفي رأيي أن شيخ الإسلام ابن تيمية هو مؤسس هذه المدرسة ومنظّرها وفيلسوفها. وأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو من أحيا هذه المدرسة في الديار السعودية. وأن الدولة السعودية هي من نشرت هذا النور في كثير من أصقاع المعمورة.
عندما ابتعثت للدراسة لأمريكا، كان المسجد الجامع هو أول محطة ترجلت فيها، وسرعان ما جلست للمسلمين أعلمهم شئون دينهم. ولم يكن عجباً لقادم من الديار السعودية - وقد تشرّب المنهج السلفي - أن يجعل العقيدة الطحاوية - والتي تبحث في جدلية الأسماء والصفات - من أول الأولويات التي تُدرس يوم الجمعة في ذلك المسجد الجامع.
تدريس توحيد الأسماء والصفات قد كان أولوية الأولويات في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية ولكنه لم يعد كذلك الآن، وخاصة في المجتمع الإسلامي الأمريكي الذي كنت فيه. فقد كانت عقائدهم في هذا الباب كعقائد عجائز نيسابور، على الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فالخطأ لم يكن في العقيدة الطحاوية ولا في تدريسها، وحاشا شيخ الإسلام ابن تيمية أن يخطئ في تقديم الأولويات. إنما الخطأ كان يكمن في المنهج الفكري الدعوي السلفي مؤخراً والذي استصحب معطيات زمن شيخ الإسلام - والذي انتشر فيه علم الكلام - إلى واقعنا المعاصر.
ومن شيخ الإسلام ابن تيمية إلى إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فقد كانت دعوته دعوة عقائدية قوية آسرة. سر عظمتها يكمن في تخلية قلوب أتباعها من التعلق بأي شيء إلا الله. ومن نتائج هذا التوحيد الصافي أن يبني في قلوب أتباعه تقوى وورعاً يحملاهم على تقديم فقه الاحتياط في أحكام وقائع ومستحدثات تناسب زمانهم.
ويتغير الزمان وتزول حيثيات الاحتياط وتختلط على بعض أبناء الدعوة أقوال العباد بما ثبت عن رب العباد. فيحرم هذا البعض على أنفسهم وعلى غيرهم أموراً ليست بالحرام، ويضيقون ما فيه سعة ويحتاطون فيما تكون نتيجة الاحتياط فيه تحريم الحلال وتحليل الحرام والتضييق على العباد. ومن ثم تُحمل الدعوة السلفية ما لا ذنب لها فيه، بل هو خطأ بعض الأتباع الذين استصحبوا فتاوى بنيت على معطيات قد تغيّرت وتبدلت.
إلى عهد قريب يذكره من قد طال عمره منا، لم تكن الأمور تختلف في بساطتها كثيراً عمّا كانت عليه في عصر النبوة. ولكن نصف القرن المنصرم وخصوصاً في العقدين الأخيرين، اختلفت الحياة بالكلية عمّا كانت عليه في عصر النبوة وتعقدت حتى لم يبق من حقائق الأشياء إلا أسماؤها. ولن يصلح هذا الدين إلا التمسك بجوهر الدعوة السلفية ألا وهو الاحتكام إلى الكتاب والسنة وفهمهما على أصول السلف لا على الفتاوى المتناثرة هنا وهناك قديماً وحديثاً. فالفتاوى تحكمها معطيات متغيّرة وأما الأصول فبنيت بعقول السلف التي لم تفسد فطرها التي كانت تدرك مقاصد الشريعة.
مما سكت عنه، أنه مع تغير الزمان والأحوال في العشرين عاماً الأخيرة لم تستطع المدرسة السلفية اللحاق فقهياً بمتغيرات العصر. فنحن ما زلنا سلفيين في العقيدة لأن العقيدة لا تتغير بتغير الأحوال، ولكننا أصبحنا مبتدعين في الفقه نقدم قول فلان وفلان على قول الله ورسوله. الدعوة السلفية تحتاج إلى مجدد يجدد فقهها على أساس جوهر مبدأها التي قامت عليه ألا وهو الكتاب والسنة على أصول السلف دون احتياط الأولين وباعتبار معطيات العقد الحالي لا القرن الماضي.