ولم تكن روما في أحسن حالاتها، في أواسط القرن الأوّل قبل الميلاد، حين قال السياسي والكاتب الروماني الشهير شيشرون: «البيت الذي لا كتاب فيه، كمثل جسد لا روح فيه!».
هذا قِيل في روما، وكان العسكر قد أحكموا سيطرتهم على سلطتها، كما يحكمونها اليوم، في معظم أمصارنا، على مصائر بيوت لا كتاب فيها، خلا الكتب المقدّسة. عشرون قرناً مضت على قولٍ في روح بيوتِ امبراطوريةٍ، كان غيرُ قليلٍ من بيوتنا خاضعاً لها، ومع ذلك فلم تمتلئ بيوتنا بالكتب. لم يكف ألفان من السنين لاستيعاب مغزى أن يصير الكتاب بيتاً، وأن يموت البيت دون كتاب.
لا كتب في بيوتنا! فهل يمكن لكتابٍ أن يعيش في مجتمع يُعرِضُ عنه في أحسن الحالات، إن لم يعدّه شرّاً، محاربته واجبة. ووجوب محاربة كل كتاب على حده، أمر لا يصعب الوقوع على أصول داعمة له، يعرف الساعون إليها أين تكون.
الكتاب عدو سهل الهزيمة! هكذا يتوهّم الباحثون عن عدو فيه. وليست هزيمة الكاتب أشد صعوبة من هزيمة وليده. فالكتّاب يموتون. لكنّ هزيمة الكتاب ليست أكثر من ضلال. فالكتاب في صراعِ أيٍّ كان معه، ينتصر في نهاية المطاف. ولا بد من يوم يأتي، بعد انحسار الظلام، يجد من ينصره فيه! هذا ما آمن به الروس، وما زالوا يؤمنون، فتاريخهم حافل برجال ظلامٍ أحرقوا الكتب وهي لا تزال مخطوطات. «المخطوطات لا تحترق!». كتب بولغاكوف في روايته الشهيرة (المعلّم ومرغريتا)»، وردد العارفون بقدرة الكلمة على الحياة مع الروس: حقاً المخطوطات لا تحترق!ما يجعل المخطوطات لا تحترق، واحد، عشرة، مائة..قلّة ممن يؤمنون أنّ الظلام لا يقوى على الحبر مهما بلغ سواده. فهؤلاء يشكّلون روح المجتمع كما هو الكتاب روح البيت. «صانع الكتاب مؤلّفه- يقول فيكتور هوغو- وأمّا صانع مصير الكتاب فهو المجتمع»!. فالمجتمع، بوصفه حاضنة لا بد من أكسيجينها لحياة الوليد، من شأنه أن يحيي الكتاب الذي خُلق للتو ومن شأنه أن يميته.. يميته إلى حين. وصانع الكتاب هنا خالقه. من شأن المجتمع أن يئد الكتاب، ومن شأنه أن يهيئه لحياة مديدة تفوق العمر البشري بأضعاف. فينتقل من جيل إلى جيل، صديقاً عابراً، من الأجداد إلى الأحفاد، ومن الآن إلى الأزمان، سالفها وقادمها. فإذا بالكتاب يصح فيه قول فولتير «حين نقرأ كتاباً لأول مرّة نشعر كأننا نتعرف على صديق جديد، وحين نعود إليه نشعر كأننا نعود إلى صديقنا القديم».
وأمّا البشر فيموتون دون الكتب المحجوبة عنهم، وأمّا الكتب فلا تموت. وأمّا الكتاب الذي يكتب من أجلنا فحق لنا وحق علينا.