Al Jazirah NewsPaper Friday  09/04/2010 G Issue 13707
الجمعة 24 ربيع الثاني 1431   العدد  13707
 

نوازع
السُميسِر المضطرب
د. محمد بن عبد الرحمن البشر

 

في ظروف معينة، وتحت مقارع الأحداث الشخصية أو السياسية أو الاجتماعية ربما ينتاب البعض شيء من الاضطراب في فعله أو قوله أو فيهما معاً، بينما يبقى غالب الناس يسلكون مسلكاً معتاداً راضين بما قسم الله لهم، وقد يلجأ البعض إلى البحث عن قناة أو وسيلة للتعبير عن المكنون لمجرد التعبير أو لتكون تلك القناة دالة للفت النظر إليه، لعله يخرج من محنته ويحل ضائقته الفكرية أو المالية أو الاجتماعية، وسواء كان هذا أو ذلك فإن أمراً غير مألوف لا بد أن يحدثه ذلك المضطرب حيث يمكنه جذب الانتباه لعله يصل إلى مبتغاه.

ويمرُّ هذا في عصور خلت ويمرُّ في الوقت الحاضر، فنرى البعض ممن يحدث أموراً غير مألوفة قد يتجاوزها إلى سلوكيات شخصية قد تجره إلى الهلاك. والسُمَيْسر الشاعر الأندلسي الذي عاش في عصر الطوائف كان من أولئك، فسلك في حياته الخاصة سلوكاً غير سوي، وليس هذا مجال هذه العجالة، غير أن نظرته إلى مجتمعه ربما تقودنا إلى ما في أعماق نفسه من ألم وجرح غائر سطَّر لنا ابن بسام في كتاب الذخيرة جزءاً يسيراً منه.

والسُمَيْسر إن كان قد عاش في عصره، فقد وضع نموذجا للعصور اللاحقة فنجده تارة يتحدث بشعر جميل في الحكمة، فمن حكمه الجميلة قوله بيتين من الشعر:

لا تُوقِدنَّ عدواً

وأطفه بالتوددْ

فالنارُ بالفمِّ تطفا

والنار بالفمِّ تُوقدْ

لا شك أن التودد يطفئ النار، واللسان جسر التعبير، وما يحمله من عذوبة في القول يمكنها إطفاء النار أو إيقادها طبقا لما يخرج من هذا اللسان. وليت السميسر قد أخذ بهذه الحكمة وطبقها على نفسه، غير أنه يقول ما لا يفعل فهو الهجّاء المتمرد على مجتمعه المتذمر من أوضاعه الاجتماعية والسياسية، فيقول:

رأيت بن آدم ليس في

جموعهم منه إلا الصورْ

فلما رأيت جميع الأنام

كذلك صرت كطير حَذِرْ

فمهما بدا منهمُ واحد

أقول: أعوذ برب البشر

ويقول أيضا فيهم:

الناس مثلُ حَبابِ

والدهر لُجَّة ماءِ

فعالم في طفو

وعالم في انطفاء

فهو يرى الناس مثل الفقاعات التي تعلو الماء، وهذا قول حكيم يخلو من الاضطراب لكنه ينبئ عن نظرة إلى مجتمع يرى فيه تسارع الأحداث وتغيرها.

وربما طرح فكرة عن نظرته على ما يراه علماً نافعاً للبشرية يمكن الأخذ به والتعمق فيه، وقد يختلف الناس حيال قوله هذا، فيقول:

كل علمٍ ما خلا الشرع

وعلم الطب باطل

غير أن الأول الطبُّ

على رأي الأوائل

هل تمام الشرع إلا

أن يكون الجسم عامل؟

وإذا كان عليلاً

بطلت تلك العوامل

هي وجهة نظر لدى السُّميسِر يرى فيها أن العلم الشرعي وعلم الطب أهم العلوم، وأن علم الطب أولى من العلم الشرعي، لأن العلم الشرعي لا يتم إلا من خلال أصحاب الأجسام السليمة.

والسُمَيسِرُ كان ساخطاً على الوضع السياسي الذي كان سائداً في غرناطة الأندلسية التي كان يعيش فيها تحت إمرة باديس البربري، والذي استوزر يهودياً اسمه يوسف ابن التغريلة بعد والده إسماعيل، ثم ثار الغرناطيون وقتلوا منهم خلقاً كثيراً بعد القصيدة التي كتبها أبو إسحاق الأليري وهي قصيدة مشهورة. وبعد ذلك قام الأمير باديس بتوزير نصراني فيكتب السميسرُ ثلاثة أبيات من الشعر وينسخ منها نُسَخا وينشرها في المدينة، ويعفُّ قلمي عن نقلها لما فيها من ألفاظ غير مستحسنة، ثم يهرب إلى مدينة أخرى يحكمها المعتصم بن صداح ويستمر في الهجاء في قصة طويلة.

إن أولئك المضطربين ربما يرون الحكمة ولكنهم لا يستطيعون التطبيق، فيطلقون لألسنتهم العنان للحديث فيما يفيد وما لا يفيد، لكن النفس البشرية لا بد لها من السير على ما جُبِلت عليه مهما كان اللجام قوياً. وكم في زماننا الحاضر من مضطربين نعرف ذلك في أفعالهم وأقوالهم وكتاباتهم؟.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد