كانت شهادة نهاية التعليم المتوسط (الكفاءة) في أيامنا تلك تماثل في أهميتها شهادة البكالوريوس وأكثر. كانت تفتح الأبواب لوظائف الدولة الكتابية والحسابية ومصدر رزق أساسيا لأبناء الفقراء وذويهم وشيكا مفتوحا للزواج والاستقرار الاجتماعي. في تلك الأيام كان طلاب مرحلة الكفاءة لعموم منطقة القصيم وأطرافها يجمعون في مدينة بريدة لإجراء الامتحان، يشرف عليهم مديرو ومدرسون مختارون من كل مدرسة فرعية وتتكفل بالنقل والإعاشة والرعاية الصحية أثناء الامتحانات إدارة التعليم، وكانت الأمور تسير بكفاءة ويسر بدون مناقصات وعطاءات ووسطاء.
المهم هنا هو أن أحد المراقبين على امتحان مرحلتي كان مدير المتوسطة في الرس المرحوم الأستاذ صالح العدل، ذلك الرجل لابد أن يبقى في ذاكرة كل طالب عاصره ويعترف بالفضل لأهله، إذ كان رجلا من الطراز الأول في صرامته التربوية ودقته الإدارية وفوق ذلك في إنسانيته وعنايته الخاصة بأبناء الفقراء واليتامى من الطلبة. أنقل لكم هنا عن ذلك المعلم الإنسان ما حدث معي شخصيا أثناء امتحان الكفاءة. كان الأستاذ صالح العدل رحمه الله يدور مع المراقبين على صفوف الطلبة حتى يصل إلى مكاني ثم يسألني: وين وصلت يا جاسر.. أسرع شوي، وإذا حليت نصف الأسئلة أشر لي لكي أحضر لك ورقة إجابة فاضية لهذا الضعيف المسكين عبدالله لكي تجاوب له كم سؤال عساه ينجح. وبالفعل كان الأستاذ صالح يدس لي يوميا ورقة فارغة أنقل عليها إجابات نصف الأسئلة عن كل مادة ثم يسحبها مني بكل خفة ويوصلها إلى ذلك الزميل عبدالله، ثم أتفرغ أنا إلى إكمال الامتحان لنفسي. لكن ما هي حكاية ذلك الطالب عبدالله؟
عبدالله كان ابن أرملة عجوز لا تكاد تحصل على ما يسد الرمق لها ولابنها الطالب عبدالله الذي لم يفتح الله له باباً يذكر إلى الفهم والاستيعاب وبالتالي لا يمكن أن يجتاز الامتحان بدون مساعدة ولو عن طريق الغش المبرمج. مديرنا الفاضل كان يدرك ذلك ويعرف أن نجاح ذلك الطالب من الممكن بتوفيق الله أن ينتشل العائلة من العسر إلى اليسر ومن الفاقة إلى بحبوحة العيش، وبناء عليه قرر الأستاذ صالح أن ينجح عبدالله مهما كلف الأمر.
في رحلة العودة من بريدة إلى الرس كان النقاش حول سعي المدير بورقة الإجابة المغشوشة صريحا ومفتوحا لجميع الأساتذة والطلبة، وكان الأستاذ صالح يقول: يا ناس هذا ولد رملاء (أرملة) ما لها إلا الله ثم هو.. لازم ينجح يعني لازم ينجح. وبالفعل نجح عبدالله وتوظف ونقله الله ووالدته من العسر إلى اليسر.
لم تكن الشفقة على الطلبة الضعفاء هي الميزة الوحيدة للأستاذ صالح العدل. كان رحمه الله ذا طموح علمي يسبق زمانه لدرجة أنه كان يجمعنا بعد صلاة العصر في حلقة قراءة جماعية لبعض كتب المنفلوطي ومجلة الهلال. في أحد الأيام أحضر كتيبا صغيرا عنوانه: الرادار. عندما سألناه ما هو الرادار يا أستاذ صالح؟ كان جوابه اقرأوا الكتاب وسوف تكتشفون. اكتشفنا أنه رحمه الله لم يكن يعرف ما هو الرادار ولكنه أراد لنا نحن أن نعرف ونتعلم ما يجهله. رحم الله الأستاذ صالح العدل رحمة واسعة ورحم جميع ذلك الجيل المنقرض من المعلمين النبلاء الذين أرونا الطريق إلى الأمام.