في مجتمعنا صور قاتمة من العلاقات بين بعض الآباء وأبنائهم، يشتركون في رسم ملامحها المتجهمة، فإما أن يكون الابن هو السبب في سوء العلاقة بينه وبين أبيه بسبب عقوقه، وجحوده، وعدم استشعاره لعظم ذنب العقوق، وسوء عاقبته في الدنيا والآخرة، وإما أن يكون الأب هو السبب في ذلك بتسلطه على ابنه، وقسوته في التعامل معه، وعدم إعطائه ما يشجعه ويدعمه نفسياً من التقدير والعطف وحسن التعامل.
ونحن هنا نوجه الحديث إلى أولئك الآباء القساة على أبنائهم، المحتقرين لقدرات أولئك الأبناء، المستصغرين لمكانتهم، الذين ينظرون إليهم بمنظار التجاهل لأعمارهم، وطموحاتهم، وطبيعة العصر الذي يعيشون فيه.
شباب في أعمار الزهور، مجتهدون في دراساتهم، حريصون على علاقاتهم الحسنة مع أهلهم، قائمون بواجباتهم الدينية خير قيام، بعيدون عن التعصب والتنطع، لديهم قدرات وطموحات ومواهب تجعلهم جديرين بالتقدير والاحترام، والتشجيع قولاً وعملاً، وتهيئة الأجواء النفسية والاجتماعية المناسبة لدفعهم إلى التطوير وتجويد الأداء، شباب طموح مجتهد، ولكنهم يعانون من قسوة آبائهم، وتضييق المجال أمامهم، ويجدون عنتاً من الأوامر الصارمة التي لا تنقطع، والنواهي الزاجرة التي لا تتوقف، والملاحقة المبالغ فيها لحركاتهم وسكناتهم، وتغليب سوء الظن في أعمالهم، وتصرفاتهم، وتضخيم ما يقعون فيه من الأخطاء، بل يعاني بعضهم من اعتماد آبائهم تحقيرهم أمام الناس حتى أن بعضهم يهرب من المجالس التي يجلس فيها أبوه؛ خوفاً من إهانته بقوارع الكلام القاسي أمام الآخرين.
وهنالك شباب يجدون معاناة من تعامل آبائهم وأمهاتهم بعد زواجهم، وقد حدثني غير واحد من الشباب المتزوجين بمعاناة لا يكاد يصدقها عقل، مع أنها حقيقة واقعة أتيح لي التثبت منها؛ فالأم تتابع ابنها وزوجته متابعة الظل، وتحترف «التنكيد» بصورة عجيبة، والأب يقف من ذلك موقفاً سلبياً أحياناً، ومؤيداً أحياناً أخرى، ويشترك مع الأم في مصادرة حق زوجة ابنهما بحجة حق الوالدين المطلق في ابنهما؛ فهما أولى بالرعاية والعناية في كل وقت، ليلاً ونهاراً، على حساب الزوجة المسكينة التي تعيش بين نارين؛ نار هذه القسوة في التعامل معها، ونار الإقدام على هدم منزلها بالطلاق مقابل هذا السجن المنزلي الخطير.
أحد الشباب بقي سنوات لا يستطيع أن يأتي إلى منزله حاملاً هديةً لزوجته، وحينما جاء بهدية ذات يوم لزوجته، وهدية لوالدته، وهدية لوالده، وهدايا لأخواته، فوجئ بأمه تجذب هدية زوجته من يديه مستنكرة تدليل الزوجة - بزعمها - وما كان منه إلا الاستسلام، وما كان من زوجته إلا الانزواء في ركن من غرفتها دامعة العين.
أحد أولئك الآباء لما نوقش في الأمر قال: طاعة الابن لأبيه واجبة، وليس له فضل في أي شيء يقدمه إلى أبيه، فلماذا أشكره، أو أقدره؟!
وأب آخر يقول: إذا أردت ابنك أن يسير مستقيماً فاضرب عليه سياج سلطة الأب صاحب المعرفة والخبرة والتجربة.
وأب آخر يقول - حينما عُوتب في قسوته على ابنه -: لماذا ألين له وهو رجل يحتاج إلى التقويم والتوجيه بصورة تتناسب مع رجولته؟ وحينما قيل له: ولكنك تحطم شخصيته قال: يستاهل إذا لم يكن صاحب رجولة.
إنها دعوة صادقة إلى الآباء الذين يحطمون فلذات أكبادهم بقسوتهم؛ أن يتقوا الله - عزّ وجلّ -، ويراجعوا أنفسهم الأمارة بالسوء لمنعها من الاسترسال في هذا العمل المشين الذي يسهم في تحقيق خسارة كبيرة للجميع والوطن والأمة بتخريج أجيال ضعيفة، محطمة، عاجزة عن اتخاذ القرار السليم في الحياة.
ودعوة صادقة إلى الأمهات المتحكمات في أبنائهن وزوجاتهم أن يتقين الله - عزّ وجلّ -، ويتذكرن أنفسهن حينما تزوجن كيف كنَّ بحاجة إلى علاقة خاصة مستقرة مع الزوج لا تصادر فيها حقوقهن المشروعة.
ودعوة إلى الشباب أن يتعاملوا مع ذلك كله بحكمة وقوة شخصية في الحق، وأن يعلموا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن يجتهدوا في الموازنة بين حقوق الآباء والأمهات والأهل، وحقوق الزوجات.
إشارة:
الأب القاسي المتسلِّط أوَّل معولٍ يحطِّم الأسرة، ويقضي على الإبداع.