لايمكن للإنسان الذي لا يملك تاريخا أن يستبيح تاريخ الآخرين وتضاريسهم مهما حاول من طمس للحقيقة أو مسخ للنصوص أو سلب للأحداث أو تزوير للوثائق...
ومهما ملك من قوة تكرس له خطف التاريخ والجغرافيا فلن يستطيع لأن الحقيقة شمس تشرق ذات يوم حتى وإن طالت سنون الكسوف....
الترجمة الاحتلالية لمدن فلسطين العربية تجاوزت تهويد التاريخ إلى تهويد الجغرافيا والتضاريس، فالقدس حتى وإن أسموها أورشليم فلن يتغير حصاها ولن يمسخ بشرها ولن تتلون أزقتها ولن تخفى وثائقها الحقيقية، وحيفا هي حيفا وعكا هي عكا وكذلك اللد والناصرة ونابلس والخليل وجنين كلها غير قابلة للتهويد مهما مسخوا حروفها العربية إلى حروف عبرية نشاز...
وإن «الأرض التي بتتكلم عربي «لن يجدوا لها ولأخواتها ولا للثوب الفلسطيني ولا للحلوى النابلسية في معاجم العبرية أي مقابل وأجمل ما تمسك به العرب في فتوحاتهم الإسلامية أنهم لم يغيروا أسماء الفالوذج والحلوى والبلاد ...فالسند هي السند والهند هي الهند وسمرقند هي سمرقند وجيحون بقي جيحونا وسيحون بقي سيحونا ومدن الأندلس كذلك لم تخرج من هذه الحسبة الإنسانية فتركوا كنائس النصارى ولم يصَلِّ سيدنا عمر بن الخطاب في كنيسة القيامة حينما دخل القدس خشية أن يتخذها المسلمون مسجدا ولم يغير اسمها وأوصى خلفاء الإسلام جيوشهم بالحفاظ على معابد الأمم ورعوها ورمموها وضمنوا بقاءها...كل ذلك يثبت أن إسرائيل منذ المستوطنة الأولى على شواطئ يافا عام 1982م وهي تشرد الأبجدية و تحتل الأرض والتراب والتراث واللغة والإنسان والتاريخ والجغرافيا ....
مؤلم جدا ما حصل في الأيام الماضية حينما أقدمت الحكومة الإسرائيلية على ضم الحرم الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم الى المعالم التراثية الإسرائيلية، وهذه الخطوة على درجة عالية من الخطورة، فعدا ما تشكله من انتهاك صارخ وفظ لكل القوانين والأعراف الدولية فإنها تنسف جهود الشرفاء في عمليات السلام وتحقيق المبادرة العربية على أرض الواقع وفق قواعد الأرض مقابل السلام وحدود67م التي تتعارض نصا وروحا مع مبادئ الاستيطان ولذلك لايعجب المرء من عدم استجابة نتنياهو لطلب الرئيس أوباما بوقف الاستيطان لبعض الوقت باعتباره ضرورة استراتيجية لدفع عمليات السلام والحرص على الأمن القومي الأمريكي ومصالحه في الشرق الأوسط، ولقد بدا نتنياهو غاية في الاستفزاز وهو يعقب على كلمة الوزيرة كلينتون أمام مؤتمر «ايباك»...
إن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» في موقفه المتشدد لم يوفق في تحديه رئيس الدولة الراعية ل «إسرائيل»، والداعمة مالياً وعسكرياً وسياسياً والملتزمة بأمنها كخيار استراتيجي والرباعية الدولية» السائرة في الركب الأمريكي في ما يتصل بملهاة «عملية السلام». وقرارات مجلس الأمن، مصدر القرار 242 بالانسحاب لحدود الرابع من حزيران - يونيو،1967 وما تلاه من قرارات بعدم شرعية ضم القدس الشرقية، والاستيطان فيها وفي الضفة والقطاع المحتلين.
ويأتي إعلان «إسرائيل» ضم الحرم الإبراهيمي، ليشكّل معوقا جديدا وخرقا صريحا للمواثيق والاتفاقيات الدولية في وضع الأماكن الدينية والتراثية والثقافية إبان الحروب والاحتلال على حد سواء، بخاصة أن الاعتداء على الحرم لم يكن الأول من نوعه بل تسبّب في السابق في ما سميَّ بالانتفاضة الثانية بعد المجزرة التي ارتكبت فيه من قبل متطرف يهودي.
نصت المادة (27) من اتفاقية لاهاي لعام 1907 أنه في حال الحصار والضرب بالقنابل ينبغي اتخاذ كل ما يمكن اتخاذه من الوسائل لعدم المساس بالمباني المعدّة للعبادة، والفنون، والعلوم، وللأعمال الخيرية، والآثار التاريخية، بشرط ألا تكون مستعملة في الوقت ذاته لأغراض عسكرية، كما تضمّنت المواد الخاصة بالضرب بالقنابل عن طريق القوات البحرية، نصوصاً تتعلق بأماكن العبادة بصفة عامة، فأكدت المادة (5) منها على أنه يجب على القائد عند الضرب بالقنابل بوساطة قوات بحرية أن يتخذ كل الإجراءات اللازمة لإبعاد المنشآت المخصصة للعبادة عن العمليات العسكرية وأعيد النظر في نصوص الاتفاقية عبر اتفاقية جنيف لعام 1949 والملحقين الإضافيين لها، إذ تم توضيح المقصود بأماكن العبادة والتي اعتبرت بأنها تمثل تراثاً ثقافياً أو روحياً للشعوب، فنصت المادة (53) من الملحق الإضافي الأول على حظر ارتكاب أي من الأعمال العدائية الموجهة ضد الآثار التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب.
كما أورد البروتوكول الثاني الخاص بالنزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي في المادة (14) ما نصه «يحظر ارتكاب أية أعمال عدائية موجهة ضد الآثار التاريخية، أو الأعمال الفنية، أو أماكن العبادة التي تشكّل التراث الثقافي والروحي للشعوب واستخدامها في دعم المجهود الحربي». ونصت المادة (56) من لائحة الحرب البرية لاتفاقية لاهاي لعام 1907 على أن أملاك المجالس البلدية وأملاك المنشآت المخصصة للعبادة والتعليم والفنون لها حمايتها ولو كانت مملوكة لدولة الخصم، فهي تأخذ حكم الملكية الخاصة، وحرّمت عمليات التخريب المتعمد لها، كما أوجبت المحاكمة عن هذه الجرائم.
كما وردت باتفاقية جنيف في شأن حماية الأشخاص المدنيين لعام 1949 في القسم الخاص بالاحتلال الحربي كالمادة (53) التي حظرت على دولة الاحتلال أن تدمر أية متعلقات ثابتة أو منقولة خاصة بالأفراد أو الجماعات أو للحكومة أو غيرها من السلطات العامة أو لمنظمات اجتماعية أو تعاونية إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتماً ضرورة هذا التخريب ........والله من وراء القصد
abnthani@hotmail.com