اطلعت منذ أعوام خلت، نبأ اختراع لطبيب شاب مسلم يقيم في الولايات المتحدة ويجري أبحاثه الطبية في ولاية فلوريدا، وهذا الشاب قد حقق باختراعه هذا نصراً عالمياً.أقول إن هذا الطبيب قد وُفق لاستخدام الماسح الإلكتروني (إيمي سكانر)،
وهو من أحدث أجهزة التشخيص الطبي في العالم، ليعمل بالتوافق مع العقل الإلكتروني لرسم خريطة كاملة ملونة لكل الجسم البشري بأجهزته وخلاياه.
ومن الرائع حقاً أن يستطيع هذا الجهاز أن يكتشف وفي دقائق أي (خلل) في أي جزء من أجزاء الجسم.. وبمنتهى الدقة أيضاً.
وأطلق النبأ في دفعة خيال فتحدثت إلى نفسي: (ماذا لو امتلك الإنسان جهازاً مثل الإيمي سكانر، فأطلقه في تاريخنا، فيمسحه فيخبرنا بالخلل أين وقع؟.. والثغرة والثغرات كيف حدثت في مسيرة الإسلام العظمى وعبر دوله وخلافاته؟
ثم رجعت إلى نفسي فقلت، وهل يقوم بعمل هذا الجهاز ويعمل عمله إلا العلماء والمفكرون المسلمون من قيادات الحرس الروحي والذهني للمسلم المعاصر، فيرصدون الجسد الإسلامي قرناً إثر قرن.. ويتأملون الخريطة الإسلامية مداً وجزراً، فيسدون الثغرات التي أصابت السور الإسلامي العظيم بالدراسة والفكر دفاعاً عن الدين والعقيدة والأرض والعرض.
وإذا كانت الثغرة هي المكان الذي يأتينا منه الخطر، وهو مأخوذ من ثغر الجدار وجمعها ثغور، كما تسمى بذلك كل فرجة في جبل أو واد، وكما يقال (أمسوا ثُغُوراً).. أي أمسوا متفرقين، والثغرة: الثلمة.
وإذا كانت الثغرة لهذه الإيماءة اللغوية تعكس للذهن الفرجة يتسرب منها الخطر للبناء، والعدو لأرض الوطن، والجرثومة الفاتكة للجسم السليم، كما تتضمن فيما تتضمن موقعاً لا تحصين فيه، أو بقعة تتضاءل فيها إمكانيات الدفاع، أو هو موقع تسقطه من حسابك فلا تتوقع أن يأتيك منه الخطر أو الخصم أو العدو لثقة بنيتها وأسباب قدرتها.
فإذا بالخطر والخصم والعدو والجرثومة الفاتكة تفاجئك من حيث أملت الأمن، فينطبق عليك في هذا الموقع المثل القائل: (يؤتي الحذر من مأمنه). وحكمة ذلك المثل أننا ينبغي ألا نثق في أمر ما ثقة مطلقة - وهو أمر ينبغي على الفرد الواحد وعلى الأمة الكبيرة.. وعلى الشعوب المتعددة أن تضعه في حسابها إذا ما أرادت لنفسها بقاء - وإننا إذا وثقنا علينا أن نراجع ما وثقنا فيه في ظل زمن وظروف تتبدل وتتغير.. وإذن فالثقة المطلقة ثغرة في التفكير.
وإذا ما أجال كل منا بصره ثم أرجع من بعد بصر فكراً وتدبراً فيما حواه الماضي.. ثم اندثر، وما يحويه الحاضر مما لا زال قائماً.. وما نقدر من خطط لبناء المستقبل مما لا زال جنيناً في ضميره.
نجد في كل ذلك - إذا ما أبعدنا التعصب والأفكار المسبقة - ثغرة وثغرات، وهذه ميزة من أكبر الميزات التي وهبها الله للعقل البشري: قدرة العقل أن يراجع نفسه بنفسه.. فنستفيد من دروس الماضي، فيصحح أفكاراً سبق صدورها منه ذاته. ونعدل من مسار الحاضر، ونقوم ما نخطط له من شؤون المستقبل.
إن الثقرة تكون في الجسم السليم.. تهمل فيعتل.
وتكون في المخطط التربوي لا تقوّم.. فإذا الأمة ساقطة في ذيل الأمم كلها.
وتكون في خطط وخطوط الجيش.. فإذا هو مندحر.
وتكون في نفس زعيم أو قائد.. فيضل ويضل.
وتكون في الدولة والحضارة.. فإذا الدولة منكسة أعلامها وإذا بالحضارة تابعة لا متبوعة..
أمثلة للثغرة.. وغيرها كثير تعرفها أنت ويعرفها من غيرنا كثيرون.. والأخطر أن يدركها أعداء لقوم.. وقومها عنها غافلون.. أي عن هذه الثغرات.
ولو أراد كل منا أن يعدد ثغرات يراها في الحياة والمجتمع والناس لعدد من ذلك المئات، ومع ذلك فليس كل ثغرة تساوي غيرها.. هذه بديهية.. ورغم ذلك يجب أن نذكر بها ليتذكر من تذكر.
فالثغرات يتفاوت قدرها بحسب (مكانها) و(زمانها) و(اتساع فجوتها).. وليس شأن من ركب سفينة فخرقها وهي في خضم الأمواج فعرض نفسه وغيره للموت غرقاً كمن يثقب جداراً في بيت على اليابسة؟؟
والثغرة هي التي تفسر.. كيف سادت حضارات ثم بادت.. وكيف آلت إمبراطوريات وخلافات عظمى إلى دويلات مفتتة متصارعة.
وإذا كانت الثغرة بهذه الصورة من الخطورة، فإن الأمن من خطورتها أن تسد.
ولقد كانت مغادرة الرماة جبل (أحد) ثغرة تلقى فيها المؤمنون درساً أليماً ولم يشفع لهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معهم.. وعلى رأسهم.. كلا.
لقد أراده الله درساً لحكمة، فالذين مرقوا إلى (المغانم) في غير الوقت المناسب صنعوا (ثغرة) والثغرة صارت هزيمة فادحة.. والخسائر التي وقعت لم تنصب على رؤوس الذين تركوا موقعهم بل تجاوزتها لجيش بأكمله.. وهذا درس يتلقاه المسلمون من (ثغرة).
وكم اليوم من (أحد).. في سور الإسلام العظيم.. وفي دياره..!
ولجسامة الخطر وتعاظم البلاء لم تعد الثقافة المزيفة في هذه الأيام العصيبة بقادرة على سد ثغرات الفكر في جسم الأمة. إن الثقافة المزيفة قد تكتسي مظهرية الحياة الكاملة.
ويخيل إليك إذا ما رأيت صحائفها وشاهدت تلفازها.. وقلبت كتبها.. إذا فعلت ذلك خيل إليك من سحرها أنها تسعى..!
ولكن يوم تنزل الثقافة الحقيقية الراضعة من ثدي هذه الأمة متصلة بأعماق وجدانها وأصالتها.. يوم تنزل هذه الثقافة إلى الساحة سوف تراها تلقف ما صنعوا، لأن أمة كانت لها تاريخ مثل تاريخنا.. وبين يديها كتاب كريم.. يقرأه الملايين صباح مساء..!!
مثل هذه الأمة إذا لم تجد نفسها في موقع القوة والسيادة والكرامة فلابد أن تجعل لفكرها مداراً لا تتجاوزه حول سد هذه (الثغرة) حتى يأذن الله بنصر من عنده.