وأنا أقرأ كتاب (المؤمن الصادق) لإيرك هوفر، والذي نقله إلى العربية الدكتور غازي القصيبي، لفت نظري في مقدمة المؤلف عبارة تقول: (لا يُصدِرُ هذا الكتاب أحكاماً ولا ينحاز إلى مهنة. كل ما يحاول الكتاب فعله هو أن يشرح، والشروح المقدمة هنا تجيء في شكل نظريات، ولكنها لا تعدو أن تكون مجرد (اقتراحات) وآراء، حتى عندما تصاغ على نحو قاطع). وعندما تقرأ الكتاب تجد أن المؤلف يطرح وجهة نظره وكأنه يفتح أمامك كوى للتفكير، واقتراحات للتأمل، ويحاول أن يبرر منطقياً كل ما يطرح بهدوء؛ حتى عندما ينقل، أو يستشهد بقول لآخرين، تجده يضعه في السياق بحيث يبدو وكأنه من مقوله وليس من منقوله، مجرد رأي يضعه أمامك فقط كي تفكر فيه لا أكثر!
وهذا الكتاب أجده من أهم أعمال الدكتور غازي؛ فهو لم يكن فيه مجرد مترجم فحسب، وإنما أعاد صياغته، أو كما وصف عمله فيه: (نقله إلى العربية)، بأسلوبه الجذاب، وإيماءاته التوضيحية، وترجمته لمن نقل عنهم المؤلف في الهوامش؛ فبدا وكأنه شارك في تأليفه وليس ترجمته فحسب.
والكتاب يحاول أن يقرأ بواعث (الحركات الجماهيرية) ومبررات نجاحها، منطلقاً من فرضيتين:
الأولى: (إن الإحباط في حد ذاته، ومن دون دعوة أو محاولة للاستقطاب من الخارج، يكفي لتوليد معظم خصائص المؤمن الصادق) والفرضية الثانية، والمرتبطة بالأولى: (إن الأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزاعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط). ورغم أن الكتاب صدر عام 1951م إلا أنك عندما تقرأه تشعر أنه يقودك إلى فهم وتفهم الحركات الجماهيرية المعاصرة ونحن في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فالإنسان هو الإنسان، وإن اختلفت البواعث والمسميات، والبيئة الثقافية وما يكتنفها من اختلافات ظاهرية، فالجوهر أو هو العمق في نهاية الأمر واحد.
يحتوي الكتاب على أربعة أقسام رئيسة ؛ القسم الأول: عن جاذبية الحركات الجماهيرية. والقسم الثاني: عن الأتباع المتوقعين . القسم الثالث: عن العمل الجماعي والتضحية بالنفس. والقسم الرابع: البداية والنهاية؛ ويتحدث فيه عن نتائج النظرية التي ينتهي إليها سياق فكرة الكتاب، رابطاً النتيجة، أو الخاتمة بالبداية أو بالفرضيات التي تحدث عنها في مقدمة الكتاب.
الكتاب ممتع وغني وعميق. وفي تقديري أنه يطرح كثيراً من الرؤى والأفكار الجديرة فعلاً بالقراءة، والتي تصلح أن تكون قواعد أساسية لفهم الحركات الجماهيرية في التاريخ. حجر الزاوية في الكتاب، أو الفكرة الرئيسة التي يدور حولها مؤداها أن (الإحباط) يكرس الإيمان بالفكرة، فيخلق ما يشبه الظمأ الذي يجعل الحركات الجماهيرية تسعى جاهدة إلى إطفائه من خلال الرغبة المندفعة نحو (التغيير)، والبحث عن البدائل، خاصة عندما يتحول (الفقر) ومنتجاته الثقافية إلى ظاهرة تفرز في النتيجة من سمّاهم المؤلف: (محدثو الفقر).
والغريب، بل والمدهش حقاً أن الذي يطرح هذا الطرح العميق كان (عاملاً) على أرصفة تحميل السفن وتفريغها في سان فرانسيسكو في الأربعينات من القرن الماضي، فكما جاء في صحيفة (وول ستريت جورنال) أن المؤلف: (كان يشغل وقت فراغه في كتابة البحوث الفلسفية، وهذا الكتاب (المؤمن الصادق) هو أول كتبه وأهمها، وقد قفز إلى قائمة أفضل الكتب مبيعاً، عندما استشهد به الرئيس إيزنهاور في إحدى ندواته التلفزيونية)!
حضارة يطرح فيها عامل تحميل وتفريغ سفن في ميناء هذا الطرح الفكري العميق، ثم يستشهد بآرائه رئيسها، مؤشر يشهد بالفعل على عظمتها.
إلى اللقاء.