والذين يزكون عبدالرحمن بدوي ويتهافتون على موروثه المضطرب والمصاب بلوثة الاستغراب، قد لا يكونون مؤصلين يميزون بين الاتجاهات والمذاهب، وقد يكون محصولهم لا يتعدّى ما كتب عنه،
وواجب المجادلين عنه أن يلموا به من خلال ما كتب إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وتناول الشخصيات بالقدح أو بالمدح من باب الشهادة والإنسان محاسب على ما يقول، ولو أنّ المتحفّظين على ما يقال تساءلوا عن مدى انسجامه مع المنهج الحق لكان خيراً لهم.
ولكي يكون القارئ على بيّنة من أمره بحيث لا يستسلم لأحد إلاّ عن قناعة تنجيه من هلكة التعصب، فإننا نسوق نصَّ ما قاله عن السلفية ظلماً وعدواناً يقول في كتابه (شخصيات قلقة في الإسلام)، (وأما النزعات السنية أو السلفية وما إليها من حركات تحاول أن تأسر نفسها في ربقة الرمز بمعناه الظاهر الأولي إلا علل وأزمات نفسية في تاريخ الحياة الروحية لدينٍ ما، وعليه أن يتبرأ منها قدر المستطاع حتى يستأنف تطوره الثري في مجال الروحية العليا). ولكي يخفف من حدّة موقفه عاد ليقول على سبيل الاستدراك: (ولكن ليس معنى هذا أننا نلعن أمثال هذه الحركات كل اللعنة بل لا نرى غضاضة في قيامها)، وهذا من باب إيمانه بالتعددية غير المنضبطة، وهو إذ يضيق ذرعاً بالسلفية ينفتح على الباطنية وغلاة الشيعة بحيث يراهما الممثلتين للدين الحقيقي، استمع إليه يقول في ذات المصدر: (وعلى ضوء هذا التقرير لحقيقة الدين الحي نستطيع أن نفهم ونقدر الدور الأكبر الذي قامت به الشيعة إلى جانب السنّة في تكوين الروحية في الإسلام، فللشِّيعة أكبر الفضل في إغناء المضمون الروحي للإسلام وإشاعة الحياة الخصبة القوية العنيفة التي وهبت هذا الدين البقاء قوياً غنياً قادراً على إشباع النوازع الروحية للنفوس)، وتمجيده للباطنية والصوفية وإغراقه في الروحانيات غير السوية، جعله يعلي من شأن المستشرق الفرنسي (لويس ماسيْنيون 1883 - 1962م)، الذي وظّف كل إمكانياته لدراسة (الحلاج) وتحقيق كتبه، ولقد سايره في تلك المكيدة حيث عدَّ (الحلاج) شهيد التصوف في الإسلام، ولربما يكون المغري الوحيد للشاعر صلاح عبدالصبور في إبداع مسرحيته الشعرية (مأساة الحلاج) التي أحدثت نقلة نوعية في المسرح الشعري وتحولاً فكرياً في قضية (الحلاج) ورسالة (ماسينيون) عن (عذاب الحلاج)، وكذلك رسالته الثانية عن مصطلح التصوف كلها تصب في صالح الباطنية، والمستشرقون لا يرون أن يلي أمر الفكر الإسلامي إلاّ هذا النوع من الخرافيين ليجهضوا فاعلية الإسلام وشموليته وينهوا دوره في بناء الحضارة الإنسانية، فالباطنية تقزيم للإسلام وعزل متعمّد له. وليس من مقتضيات الإسلام الحقيقي الانقطاع للعبادة، ولقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع مقولة الثلاثة المتبتلين: من رغب عن سنّتي فليس مني، مشيراً إلى أنّ العمل لبناء حضارة الأمة من سنّة رسول الله، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إلى رجل مظهر للنسك مُتماوِت فخفقه بالدزة وقال: لا تُمت علينا ديننا أماتك الله.
والمترجمات التي جمعها في كتابه (شخصيات قلقة في الإسلام) تمحورت حول ثلاث شخصيات:
- سلمان الفارسي.
- الحلاج .
- السَّهْروردي .
وسلمان الفارسي رضي الله عنه مثل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه حُمِّلَ ما لم يحتمل وأضيف إليه ما لا يمكن قبوله، واتخذته الباطنية وبخاصة النصيرية والإسماعيلية رمزاً من رموزهم بوصفه باحثاً عن الحقيقة، مثلما اتخذ الماركسيون أبا ذر رائداً اشتراكياً حين شذّ في تفسيره لآية الكنز، وما كان سلمان ولا أبو ذر رضي الله عنهما قابلين لاستيعاب رؤية الباطنية والماركسية ولكنها الأهواء الجامحة والعقول المنكوبة.
وأيّاً ما كان الأمر فإنّ عبدالرحمن بدوي جماع المتناقضات وجسر المتشابهات، وتراثه غارق في لوثة الوجودية والباطنية وما يقال عنه من كلمات تلطيفية يجهضها فكره الملوّث، ولقد حاول في خريف عمره بعد أن تفلّتت من بين يديه كافة الإمكانيات أن يحسِّن من صورته، وأن يتدارك ما يمكن تداركه فألف في الدفاع عن القرآن والرسول ما يوهم السذّج أنه مفكر إسلامي، والحوار الذي أجري مع (فؤاد زكريا) - وإن كان خصماً لدوداً - يكشف عن أنه لا يقل عن (مهاجر أم قيس) نسأل الله له العفو ولنا السلامة من ندامة لا استدراك لها تأتي على حد: (فلما أَدركهُ الغرقُ). وقراءة العمالقة من المفكرين المستغربين تحتاج إلى إمكانيات ومصداقية فما من أحد منهم سلم من لوثة الفكر الحديث الغارق إلى الأذقان في الماديات، وبعض المفكرين المعاصرين لم يكونوا متخصصين بل هم على جانب من الموسوعية، وانتماؤهم إلى مذاهب ليست من الإسلام في شيء يبدي عوار آرائهم، وهذا الدخن يحمل المستبرى لدينه أن يتحرّى الحق في تحرير المسائل، فالمادية والعقلانية والتبعية والاندهاش والشعور بالهزيمة تفعل فعلها في تدنيس الفكر، ولقد يبلغ الأمر ببعض المفكرين مبلغه حتى يقول كلمة الكفر، وهو لا يدري أنها في الدرك الأسفل من المادية واللادينية وإذا نبّهته لذلك أقسم الأيمان المغلظة أنه لا يعرف مبلغ هذه الكلمة من الدركات.
والمشاهد الفكرية العربية تدفَّقت فيها تيارات ومبادئ لم تكن مستوعبة ولا معروفة الجذور، ولهذا يقع البعض في الحمى وهو لا يدري وقد يظن نفسه من المصلحين، وكأنّه المعني بقوله تعالى: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ?، ذلكم هو عبدالرحمن بدوي العملاق في الفكر والفلسفة والناشط في الترجمة والموسوعية والذي لا يستغني عن منجزة مشتغل في الفكر المعاصر، شأنه في ذلك شأن جيل العمالقة والقمم الشوامخ بدءاً ب(جرجي زيدان) ومروراً ب(علي عبدالرازق) و(سلامة موسى) و(زكي نجيب محمود) وانتهاءً ب(طه حسين) وكافة الوجوديين الذين أعلنوا وجوديتهم أو استبطنوها ك (أنيس منصور).