كتب المثقف الراحل إدوارد سعيد عن الراقصة تحية كاريوكا، وأثارت كتابته عديداً من الأسئلة ؟، من أهمها ماذا كان يبحث عنه الكاتب الكبير في تاريخ تحية كاريوكا، فهل كان يريد أن يقول إنّ الثقافة ليست حراك النخبة، بل هي إيقاع الشعوب مهما ابتعد عن النص...!، أم كان يريد أن يبحث في المسكوت عنه في حياة المرأة العربية، وفي توثيق حراكها المحرَم في المجتمع المحافظ، لكنه حين كتب دراسته عن تحية كاريوكا كانت قد فقدت جاذبية الجسد، بعكس الروائي الشهير غابريل ماركيز الذي كتب عن المطربة شاكيرا واعترف أنّ مغناطيس حركة الجسد جذبه إليها.. كذلك يبرز المسكوت عنه في تاريخ الفن السعودي النسائي كنشاط إنساني تجاوز حدود التابو الديني والسياسي، وما يجعل من الأمر مشوقاً هو أن الفن والغناء لهما شعبية جارفة في المجتمع المحافظ، لكن المفارقة في أنّ الفن الذكوري بشكل عام هو الذي يحظى في المجتمع السعودي بالتعبير عن الإعجاب والتقدير على المستويين الرسمي والشعبي، فالفنان الرجل له احترامه و معجبوه من مختلف أطياف المجتمع، ويظهر ذلك في الدعوات المتكررة للمطربين الذكور في الغناء في الاحتفالات الرسمية وغير الرسمية، بينما إلى الآن لا يوجد أي تقدير ظاهر للفنانة أو المطربة السعودية،.
بل لا يذكر التاريخ الحديث أن تم تكريم أي منهن في الماضي، وربما تعود الأسباب إلى الموقف من الغناء أولاً، ومن المرأة المتحررة بشكل عام، وأيضاً في رغبة الرجل في أن تبقى في محافظتها، وإن حدث وتمرّدت أحداهن وقررت الغناء فلن تصل إلى أكثر من مكانة (طقاقة) وهي مهنة دونية إن صحّ التعبير، والطقاقة هي المرأة التي (تطق) الطار في حفلات الزواج، ولا زال الكثير يُطلق عليها ذلك بالرغم من دخول الآلات الوترية وتقنية الصوت الحديثة وارتفاع أجورهن إلى أرقام خيالية..
ارتفع صوت بعض الفنانات السعوديات عالياً وهن يغنين على المسارح وشاشات القنوات العربية، ودخلن بجرأة غير عادية إلى سوق الإثارة، ومع ذلك لم يستطعن لفت انتباه الرسمي، ولم ينلن أي متابعة لنشاطهن، مما جعلهن يبحثن عن التمرد وإعلان المواقف الجريئة، في حين يحرص المطرب الرجل في الالتزام بالخطوط الحمراء في المجتمع، فالفنانة عتاب - رحمها الله - كانت أول من واجه آثار حركة جهيمان على المجتمع بشقيه الرسمي والشعبي، عندما قررت المضي في الغناء خارج الحدود وافتتاح ملهى غنائي، يرتاده محبو السهر والليل في قاهرة المعز، ولم تستجب إلى قرار المنع الرسمي، و وقفت ضد موجة التحريم التي اجتاحت المجتمع في الثمانينات الميلادية، لتعود بعد انتهاء عصر الصحوة إلى الوطن، لكن حراكها المحرَم في الهامش ظل بدون ردة فعل، وغاب في دائرة المسكوت عنه..
لفت نظري مؤخراً مقابلات للفنانة السعودية وعد في جريدة إيلاف الإليكترونية وبعض القنوات الإعلامية، وقد أبدت تذمراً من عدم دعوتها للمشاركة في مهرجان الجنادرية، بالرغم من مشاركة فنانات عربيات، وكانت أثناء المقابلة تصرخ عالياً من أجل أن تلفت الانتباه إلى المجتمع الذكوري والذي يمارس سياسة السكوت والتهميش عما تقدمه الفنانات السعوديات خارح بلادهن، وقد وصلت درجة تمردها إلى أن تقول إنها (لا تفوت أي خطبة لقائد حزب الله اللبناني حسن نصر الله وتتمنى لقاءه)، وأطرت السيد حسن بالمديح وأنها تراه قائداً عربياً يدافع عن حدود بلاده ضد العدو التاريخي للأمة العربية والإسلامية..
قد يُفسر ما حدث على أنه حركة تمرد أنثوي عفوي في اتجاه المركز، لكن اختراق المحرَم دينياً وسياسياً من قبل المهمّشين قد يحمل رسالة من الشعبي المسكوت عنه، وما صرحت به الفنانة وعد قد لا يبوح به مثقف في ظل الأزمة الحالية، لكنه يدخل ربما في محاولة لفت الانتباه إلى أنّ (الطقاقة) فنانة حسب الثقافة الإنسانية، وتقدم فن شعبي وتعبر عن تراث طبقات مهمشة في المجتمع المحافظ..