Al Jazirah NewsPaper Monday  05/04/2010 G Issue 13703
الأثنين 20 ربيع الثاني 1431   العدد  13703
 
توالي انتصارات الصهاينة 3-3
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

قال لي أحد الإخوة الذين أكنُّ لهم مودةً وتقديراً: لقد بالغت في جعلك اتفاقية كامب ديفيد انتصاراً للصهاينة مضاهياً لانتصارهم في إقامة دولتهم على أرض فلسطين، فقلت له:

إن في طليعة مَن وصف تلك الاتفاقية بما ورد في كلامي أحد قادة الكيان الصهيوني، ولا أظنه جاهلاً لا يدرك أبعاد الأمور والقضايا. ولعل من أدلة سوئها على مصر بخاصة، وأمتنا العربية بعامة، أن الشرفاء في الحكومة المصرية حينذاك لم تسمح لهم ضمائرهم أن يبقوا في حكومة تقدم على قبولها والتوقيع على بنودها المجحفة بحق وطنهم العزيز وأمتهم العربية المسلمة.

أجل.. كان انسحاب مصر - بكل ما لديها من إمكانات - من ميدان الواجهة مع الكيان الصهيوني وفق اتفاقية كامب ديفيد نصراً عظيماً لذلك الكيان، كان حدثاً فك ارتباط مصر بفلسطين، وهو الارتباط الذي تأسس منذ عصر الفراعنة. يعلم هذا حق المعرفة كل مَن قرأ تاريخ مصر وفلسطين القديم، ويعرفه أيضاً، كل مَن قرأ تاريخ هذين القطرين عبر القرون.

كان الفرنجة الذين تلقبوا بالصليبيين يدركون ذلك الارتباط غاية الإدراك؛ ولهذا لم يكتفوا بغزو فلسطين، وإنما غزوا معها مصر أيضاً. ومن المعروف أن فلسطين لم تتحرَّر من احتلال الفرنجة إلا عندما انطلق الجيش الإسلامي من مصر لتحريرها تحت راية صلاح الدين الأيوبي، ثم تحت راية المماليك، وفي طليعتهم الظاهر بيبرس.

ومما يوضح ذلك الارتباط، أيضاً، أن نابليون لم يكتف بغزو مصر بل رأى أن تأمين الاحتلال الناتج عن ذلك الغزو مرهون باحتلال فلسطين إلى حد كبير. وكان من الوسائل التي حاول استخدامها لاحتلال فلسطين أن دعا اليهود - وهو من نتاج الثورة الفرنسية المتعاطفة تعاطفاً عظيماً مع اليهود - إلى (إعادة مجدهم - كما زعم - بإحياء مملكة القدس القديمة تحت لوائه)، وذلك عام 1799م، وكان بذلك أول رجل دولة غربي يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين، على أن فشله أمام أسوار عكا كان نقطة البداية لخروجه مخذولاً من مصر.

ومما يشير إلى هذا الارتباط، أيضاً، أن ما حدث في حرب 1948م كان سبباً من أسباب قيام ثورة مصر عام 1952م، وما كان قادة تلك الثورة عند القيام بها ذوي توجه قومي عربي، بل كان منطلقهم أن أمن مصر مرتبط بأمن فلسطين.

وعندما سمحوا للفدائيين الفلسطينيين أن ينطلقوا في عملياتهم الفدائية ضد الصهاينة المحتلين من غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية عام 1955م، كانوا يرون أن أمن فلسطين مكمل لأمن مصر.

ذلك هو تاريخ مصر في مختلف القرون، ولقد قرأ زعماء الصهاينة التاريخ قراءةً صحيحةً، وتأملوا دروسه حق التأمل، وهم بهذا يختلفون كل الاختلاف عن أكثر زعماء عرب الوقت الحاضر الذين يأنفون من قراءة التاريخ، أو يقرأون شيئاً منه قراءةً أبعد ما تكون عن أخذ الدروس والعبر منه؛ ولهذا صدق مجرم الحرب الصهيوني موشي دايان - وهو كذوب - عندما قال: العرب لا يقرأون. وقراءة زعماء الصهاينة للتاريخ هي التي من علاماتها، أو من أمثلتها، قول مجرمة الحرب الصهيونية جولدا مائير، عندما وصلت قواتهم إلى إيلات على رأس البحر الأحمر عام 1956م: إني لأتنفس رائحة خيبر، وقول دايان أمام جدار البراق - وبعض أجهزة إعلام أمتنا تسمِّيه ما تسمِّيه أجهزة الصهانية والمتصهينين حائط المبكى - عام 1967م: يا لثارات خيبر وبابل! أعداء أمتنا يقرأون التاريخ - وربما زيَّفوا صفحات منه -؛ ليستمدوا منه قوة معنوية تعينهم على ارتكاب جرائمهم. ومن أمتنا مَن هم محسوبون على رجال الفكر والثقافة، وينظرون إلى تاريخ أمتنا نظرة دونية، ويتجنَّون عليه مثبطين لعزائم أصحاب الحق من هذه الأمة.

أما بعد:

فقد سبق أن كتبت مقالة عنوانها: (وصول الصهاينة إلى القمة)، وذلك عام 1425هـ-2004م، وكانت كتابتها وهم يواصلون ارتكاب جرائمهم البشعة متحدِّين كل المنظمات العالمية المعنية بحقوق الإنسان؛ لأن أمريكا سيدة العالم المتحكمة في قيادات العالم بدرجة كبيرة تقف بصراحة وبجاحة مع مرتكبي تلك الجرائم، بل إن رئيسها حينذاك، بوش الابن، كان لا يكف عن شرب كأس التصهين حتى الثمالة؛ بحيث لم يكن ليترك فرصة دون إظهار مزيد من ولائه للصهاينة، وإذا به يتبنى مشروعاً يصنف بموجبه دول العالم حسب مواقفها مما يسمّى (اللاسامية)، وما هذا إلا محاولة لسد الباب أمام أي نقد للكيان الصهيوني المستمر في ارتكاب جرائمه ضد أمتنا. لكن هل أمريكا وحدها التي وصل وقوف زعمائها مع الصهاينة إلى ما وصل إليه؟ لا، لكن أمريكا هي الأهم والأعظم.. إن رجالات الغرب بعامة؛ سياسيين ومفكرين، يبدون كأنما كتب عليهم أن يظهروا ولاءهم لأولئك الصهاينة؛ ففي فرنسا - مثلاً -، وهي بلد الثورة التي من أسسها الحرية، كتب باحث فرنسي أبيض رسالة عن الهولوكست، وبيّن بالوثائق والأرقام أن هناك مبالغة في الأعداد التي قيل - وروِّج - عنها، وأجيزت الرسالة من اللجنة العلمية في تلك الجامعة، ومُنح الباحث الدرجة، لكن لم يمضِ شهر على ذلك حتى أتى وزير التعليم الفرنسي نفسه إلى تلك الجامعة، وعنَّف مسؤوليها، وسُحبت الدرجة العلمية، أو الشهادة، من الباحث، وقبل شهور أصدرت محكمة بريطانية - وبريطانيا أم القانون والديمقراطية - حكماً باعتقال أحد زعماء الكيان الصهيوني إن هو قدم إلى تلك البلاد، وإذا برئيس الوزراء البريطاني يسارع إلى إلغاء الفقرة من القانون الذي حكمت تلك المحكمة بموجبه. أما وقد وصل الصهاينة إلى القمة في العالم، وذلك في العصر الصهيوني، فهل يزحزحون عن هذه القمة؟

تلك المسألة هي ما تناولته في مقالة نشرتها بعد أسبوع من نشر المقالة السابقة، وكان مما قلته في ذلك التناول: إن أقوى دولة في العالم الآن هي الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت عاد هذا الزمان تستعرض عضلات قوتها متبنيةً مقولة عاد الأولى: مَن أشدُّ منا قوة؟ وتبطش بالآخرين الذين يفكرون - مجرد تفكير - بعدم تقديم آيات الخضوع لها، متغطرسة جبارة، لكنها مع ذلك لا تستطيع معارضة الصهاينة. ولقد بيّن هذه الحقيقة وليام فولبرايت، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، بقوله: (إن إسرائيل اليوم تسيطر على مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة). وبيّنها، أيضاً، جورج براون، رئيس أركان القوات المسلحة الأمريكية السابق، حين قال: (يمكن أن نقول للإسرائيليين: إننا لا نستطيع أن نحصل على موافقة الكونجرس لتأييدكم فيما تريدون، فيقولون لنا: لا تقلقوا بالنسبة للكونجرس؛ فنحن نكفيكم إياه. إن هؤلاء من بلد آخر، لكنهم يستطيعون أن يفعلوا ما يقولون. إنهم - كما تعلمون - يملكون البنوك في هذا الوطن، كما يملكون الصحف). على أن كاتب هذه السطور يضيف إلى ذلك أنهم ليسوا مالكين للبنوك والصحف فحسب؛ بل إنهم ماهرون في استخدام ما يملكون لأغراضهم الشريرة، وأنهم - إضافة إلى ذلك - يملكون صناعة السينما المؤثرة، كما يملكون براعة التنظيم والتخطيط.

هناك مؤملون في أن يروا يوماً يتحرر العالم فيه - وفي طليعة هذا العالم الشعب الأمريكي - من إرادة الصهاينة، لكني لست من أولئك المؤملين في رؤية ذلك التحرر في المستقبل المنظور.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد