(1) عبْرة:
لا تخلو أيُّ تجربة عمل من مواقف، بعضُها قاهر، وبعضها مفْتعل، وبعضها يمكن الغلَبَةُ عليه.. صبْراً وجُهداً واحتسَاباً، وآية ذلك كله رحلة (القدوم) إلى هذه الحياة ليبدأَ المرءُ منها مشْوارَ العمر، ولو أردتُ أن أُفلسفَ الإجابة على هذا السؤال لقلتُ إن أيَّ عمل لا تتخللّه عقبات.. ولا تواجهه صعوبات، تتضَاءلُ فيه ومعه نشوةُ النجاح، بل تبُور! وإذا كانت النتائجُ تُقاسُ عادةً بأضْدادها، فكيف للمرء أن يُميّزَ بين النجاح وضده؟! وكيف له أن يُمتع وجدانهَ إشراقُة فرح إنْ لم تسبقْها عتْمةُ عناء!
* *
وسيرتي الأدبية ليست استثناءً من ذلك، ففي الكتابة مثلاً يلازمني أبداً هاجس الإخفاق في اختراق عقل القارئ ووجدانه، فكراً وأسلوباً، حتى وإن لم أُرضِه أو أغْضبْه أو استنفرْ انتباهَه، ويومَ تتحوّل الكتابةُ عندي إلى عمل رتيب مفرّغ من العناء تسيّره ثقة عمياء تستسهل ذكاء القارئ أو تستغفله أو تخادع فطنته.. فذاك هو يومي الموعود بالكفّ عن الكتابة!!
**
ولي في العمل نصيب من المعاناة رغم توالي السنين، وتكاثف الخبرة فهناك (عقبةُ) التعامل مع (الإمكانات المتاحة) التي قد تحدُّ من طموح الإدارة، في تطوير آلية العمل، وهناك (عقبةُ) الاحتفاظ بحماس وَوَلاء الإخوة الزملاء بحثاً عن صيغ أفضل للأداء، وهناك (عقبةُ) البحث عن قدرات شابة جديدة مؤهلةٍ نفسياً ومهنياً، للعمل في بيئة مشحونة بالتحدي وبالرغبة في النجاح، وتقديم الأفضل!
**
باختصار: الحياة صراطٌ تنتشر على ضفافه العقباتُ، منذ أول صرخة يطلقها الوليد لحظة تجاوزه محطةَ الرحم، حتى آخر لحظة يواجه بها ربَه! ولولا هذه العقبات.. ما كان للحياة زينةٌ ولا فتنةٌ ولا متاعٌ!
**
(2) الإدارة كالسياسة.. فنُّ الممكن!
احترافي العملَ الإداريَّ أمرٌ قدّره الله لي تقديراً، وأعانني عليه، وساقني إليه، لم آتِ إليه مُرْغَماً ولا مخْتاراً، وحين رحلت إلى أمريكا للدراسة الجامعية وما بعدها، لم يدرْ في خلدي أن أدرسَ الإدارة أو أتخصَّصَ فيها، كانت وزارةَ المعارف، الجهةُ (الموفدةُ وقتئذٍ), هي التي حددت ذلك التخصّصَ، فلم أعْصِ لها أمراً، ووجدتُ في ذلك الحقل متعةً للذهن، وكان (العنصرُ الإنساني) في الإدارة أهمَّ عندي من كل مكوناتها الأخرى، فبالإنسان.. تكونُ الإدارة أو لا تكون! أمّا النظم والتعليمات والإجراءات و(خرائط) الهياكل الإدارية.. فليسَتْ سوى وسائل تعين الإداري على التفكير والتدبير أولاً وآخِراً! ولذا أجرؤ على القول إن الإدارة كالسياسة.. يمكن تعريفها في أحسَن أحوالها بأنها فنّ الممكن!
**
الأمر الآخر الذي شدّ انتباهي إلى هذا الحقل هو أن الإدارة ليست مبادئَ ونظرياتٍ وطروحاتٍ وتصنيفاتٍ فحسب، كما قرأنا وسمعنا، لكنها إلى جانب ذلك كله، تعتمدُ على (توظيف) الحسِّ المعرفيّ والذكاء الفطري والإدراك العقلاني والإنساني البصير، ومن ذلك كله يستلهم المرءُ آليةَ تدبير كثيرٍ من الأمور، فمَنْ كانت لديه تلك (الملَكَات)، حتى ولو لم يقرأْ ل(ماكس فيبر) و(بيتر دركر) وسواهما، استطاع إدارةَ المنشأة الإدارية بكفاءة. أنا هنا لا أقلّل من أهمية (أكاديميا) الإدارة بأيّ حال، ودورها الإرشادي والتقويمي، لكن تظلّ (الموهبةُ الشخصية) وسدادُ الرأي وتراكمُ الخبرة الإدارية في الاتجاه الصحيح سيدةَ الموقف في جلّ الأحوال!
**
(3) الكتابة همٌّ وفنٌّ!
الذين يُؤْرقُهم الحنينُ مثلي إلى الحرف الجميل، أقول لهم: الكتابة عشقٌ لا صنعة، وموهبةٌ لا بدعة، وهي قبل هذا وبعده همّ وفنّ، فمَنْ شاء منكم أن يكتبَ، فليفعل.. ولكن عليه أن يُحاسبَ نفسَه، طرحاً وأسلوباً، قبل أن يُحاسَب.. وأن يحترِمَ إحسَاسَ القارئ وذكاءَهَ.. إنْ كان يريد بقاءً، وألاّ يسْتعجلَ النجاحَ.. أو يزايدَ على فطْنة القارئ.. أو يُراهنَ على رضاه.. فرضاه ليس في كل الأحوال غايةً لا بدّ أن تُدرك، وإن حرصَ من حرص, وهو في الختام الخصم والحكم!