قد لا نختلف على أنّ مقاومة الإرهاب يمثل إرادة جمعية ينخرط فيها غالبية أعضاء المجتمع، كونها المرادف لإرادة الحياة والعمران، وقد تتفاوت سبل المواجهة وأدواتها، فقد يكتفي البعض بالإشارة دون صريح العبارة. و دون أن يكون هناك مقاربة حقيقية للجذور والمحرضات أو الفضاء العام الذي تنمو فيه نبتة الإرهاب, وقد يدين البعض الظاهرة دون أن يلتفت إلى الحواضن الفكرية التي تسهم في حدوثها من انغلاق فكري وتعصب ورفض للآخر، وقد تلوّح بالإدانة بعض المؤسسات الرسمية بصورة مناسباتية لتبيض الصفحة اتجاه الإرادة السياسية، ومن ثم تغلق الملف لتعود وتنغمر في ممارسات تعيد استيلاد التطرّف، ليس كمناخ وكفكر فقط، بل كممارسة وسلوك أيضاً.
ولكن ما حدث في المدينة المنورة الأسبوع الماضي أثناء انعقاد المؤتمر الذي نظمته الجامعة الإسلامية هناك يمثل منعطفاً كبيراً، ليس فقط في تاريخ الجامعة، وإنما في أسلوب الخطاب الذي يقترب في زخمه من رؤى مؤتمرات الحوار الوطني، وإن كانت الجامعة تجاوزته إلى النطاق الإسلامي، حيث الانتقال بالحوار من الانفعال المنبري والخطاب الوعظي التبشيري إلى المستوى العلمي (الأمبريقي) الذي يعمل مبضع التشريح والتحليل وتقصي مواضع الخلل احتراماً لهيبة العلم.
ولطالما نهض العالم في وجه الخرافة ورفض الانسحاب لغواية العاطفة، ومن هناك اختارت الجامعة الإسلامية كمؤسسة أكاديمية، من المفترض أنها معنية بتأصيل الفكر العلمي الموضوعي القائم على الدلائل والقرائن، للوصول إلى نتائج متخلصة من المسلّمات الحاجبة للحقيقة، وأحادية الصوت العاجزة عن تجسير المسافة مع المختلف.
الجامعة الإسلامية في المدينة أشرعت بواباتها جميعاً ليس فقط ليستمع لها محيطها، بل لتستمع هي أيضاً إليه، بعيداً عن المشهد القديم المنغلق على جو من الدروشة المنقطعة عن المحيط العام، وهي استطاعت برأيي الشخصي أن تقوم بما عجزت عنه بعض الجامعات الإسلامية في تبنِّي إرادة جمعية تنطلق من الأساس إلى قمة الهرم في توجُّه واحد حول مقاربة ظاهرة الإرهاب، ومن ثم الخروج بتوصيات تعتبر تاريخية من قبل أكاديمية إسلامية عريقة، وفي ظل مناخ ما برح مشتتاً بين طروحات الحركات المتطرفة، والمراوحة المترددة بين تعريف شامل للإرهاب ومفهوم الجهاد والولاء والبراء، وانتماءات جهوية ضيقة ذات أسقف منخفضة.
توصيات المؤتمر الذي شارك في صياغتها نخبة محلية وإسلامية أيضاً صنعت موقفاً تاريخياً، فهي لا تعترف بوجود الإرهاب كظاهرة فقط، بل وتدين جميع أشكاله وأساليبه، وتدعو إلى تفعيل الحوار كمنطلق فكري وحيد للتعبير، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية واحتواء فئة الشباب، بالإضافة إلى دعم حقوق الإنسان و مؤسسات المجتمع المدني كأحد أبرز السبل لمقاومة فكر التطرّف (لن أستطيع أن أجمل التوصيات لضيق المساحة).
لكن في النهاية لابد أن نقف امتناناً واحتراماً للإرادة الشاهقة التي تكمن خلف هذا جميعه، والمتمثلة بمدير الجامعة الإسلامية د. محمد العقلا الرجل الذي انتكب حلمه الوطني الشاسع فوجدناه خلف جميع التفاصيل التي صنعت هذه التظاهرة، فهو (بشهادة الجميع) يمثل رجل المرحلة للجامعة، والذي استطاع أن يشرع بواباتها وليس فقط يبرز للعالم طاقاتها وقدرات أكاديمييها ومنسوبيها، بل أيضا يعقد صلاتهم مع جميع ألوان الطيف الوطني بجميع تشكلاته.
ومن هنا يدفعنا الطموح في الأعوام القادمة إلى المزيد من مشاركات الطيف الوطني فوق منبر الجامعة الإسلامية، منطلقين من إسلام يستظل بدوحته الجميع، ولا تحتكره فئة أو جماعة أو جهة.