كثرت (القمم) العربية والإسلامية والإقليمية في المنطقة العربية والإسلامية، مع ما يسبقها - في العادة - من اجتماعات تمهيدية، لوزراء الخارجية.. حتى لم يعد يفصل بين (القمة) والأخرى سوى شهور قليلة لا تكفي لاستيعاب مقررات القمة
السابقة، فضلاً عن توفير آليات (تنفيذها).. بينما ظل العائد السياسي لتلك القمم المتلاحقة إجمالاً دون مستوى آمال الأمة وتطلعات شعوبها.
ولا أظنني أبالغ إذا قلت إنه ربما لم يبق في الذاكرة العربية من تلك القمم التي بلغت ثلاثا وثلاثين - ما بين عادية وطارئة - وما دار فيها وما صدر عنها.. على مستوى المواجهة مع العدو الأول والأكبر (إسرائيل) والأراضي المحتلة من قِبَله.. إلا ما صدر عن القمة العربية الأولى في (القاهرة) عام 1964م.. التي تصدت لمشروع تحويل مياه نهر الأردن، وما صدر عن (قمة) الخرطوم الرابعة في أغسطس من عام 1967م.. من دعم للمجهود الحربي لكل من (مصر) و(الأردن)، واتفاق حاسم جازم بأن لا صلح ولا مفاوضات ولا سلام مع إسرائيل.. إلا بعد انسحابها من الأراضي التي احتلتها عدواناً في الخامس من يونيه من ذات العام، وما صدر عن القمة العربية الخامسة في القاهرة عام 1970م.. في إطفاء الحريق الذي اشتعل بين (الأردن) والمقاومة الفلسطينية، وما صدر عن القمة العربية السابعة بالرباط عام 1974م.. في الاعتراف ب (منظمة التحرير الفلسطينية) ممثلاً للشعب الفلسطيني وناطقة باسمه، أما ماعدا ذلك.. فقد كان في معظمه بيانات إنشائية بليغة التعابير، ولكن لا شيء تحقق على أرض الواقع من بلاغتها وحميمية وقومية مفرداتها..!!
على أن هذه القمم العربية المتواصلة التي امتدت لما يزيد على ستين عاماً تقريباً (إذا اعتبرنا لقاء مزرعة الملك فاروق في (أنشاص) في أواخر الأربعينيات الميلادية.. يمثل القمة العربية (الأولى) بعد تأسيس الجامعة العربية)، التي لم تفعل جميعها شيئاً في النهاية على أرض الواقع.. كانت تغرق وعلى الدوام في (كم) هائل من الموضوعات والقضايا تبلغ (العشرين) أحياناً، ولا تقل عن العشرة في أحسن الأحوال.. تدعي مناقشتها كل قمة ثم تصدر عنها (بيانات ختامية) في نهايتها، تطور اسمها فيما بعد على يد (ترزية القوانين) كما يقول أشقاؤنا المصريون.. تطوراً سياسياً فخماً جذاباً إلى كلمة (إعلان) متبوعة باسم (العاصمة) أو المدينة التي احتضنتها، دون أن يكون هناك أدنى فرق بين (البيان) أو (الإعلان)..؟
ولو أن هذه القمم التي سمَّت ما يصدر عنها ب (الإعلان).. اكتفت بدراسة ومناقشة ثلاثة إلى أربعة إلى خمسة موضوعات من ذلك الكم الهائل من الموضوعات والقضايا.. لأمكن القول إن ما صدر عنها هو (إعلان) وليس بياناً ختامياً، كما هي الحال في قمة (سرت) الليبية الأخيرة هذه.. التي كان يصح تسمية ما صدر عنها ب (البيان الختامي) بعد مناقشتها خمسة عشر موضوعاً (أو قضية) وليس تسميته ب (إعلان سرت)، طلباً ل (الفخفخة) والفخامة.. أو تأكيداً - غير مقصود - لما قاله فيلسوفنا عبد الله القصيمي (إن العرب ظاهرة صوتية)، أو (ظاهرة لغوية).. كما أقول!!
فلو أن هذه القمة الثانية والعشرين، التي صادف انعقادها.. (اختناق) عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية ب (الاستيطان)، ووصول (القدس الشرقية) إلى مائدة التهامها إسرائيلياً بالكامل، وبلوغ (غزة) مشارف (الموت) احتضاراً بالحصار، وهبوب عاصفة نتائج الانتخابات العراقية.. التي تريد خطف العراق من وحدته وعروبته بعد احتلاله، وأعاصير انشطار السودان إلى سودانين التي بدأت تهب مع انتخاباته الرئاسية المقبلة واقتراب عام الاستفتاء (العجيب).. ركزت على هذه القضايا العربية الجوهرية وحدها، واتخذت حيالها المواقف العربية القومية المؤملة والمنشودة، لكان ذلك أجدى وأنفع ل (الأمة العربية) نظرياً - على الأقل - حتى ولو لم يتحقق بعضه أو كله على أرض الواقع، ولكان ساعتها يمكن القول إن ما صدر عن (قمة سرت) هو (إعلان)، وليس بياناً, بينما الحقيقة تقول.. إنه (بيان ختامي) عادي.. كُتب بأجمل الألفاظ والعبارات وأبعدها عن الحقيقة.. كالعادة، بعد أن غاصت القمة - وسط غياب لافت لثمانية من قادتها - في خمسة عشر موضوعاً وقضية (كل ثلاثة إلى خمسة منها.. تحتاج إلى قمة لوحدها).. التهمت معظم ساعات المؤتمر الثماني والأربعين.. مما اضطر المنظمون معها إلى الاكتفاء بجلسة عمل سرية واحدة ل (القادة) بدلاً من اثنتين، مع إلغاء إلقاء كلمات القادة الختامية.. والاكتفاء بتوزيعها على الحاضرين من رؤساء وأعضاء الوفود، وكأن الأمة العربية - بملايينها.. خارج القاعة - لا يعنيها الاطلاع على خلاصات آراء القادة ومواقفهم - بعد مداولاتهم - في ختام اجتماعاتهم..!!
لكن البيان الختامي للقمة.. وعلى الرغم مما فيه من كلمات (الشجب) و(الاستنكار) و(التنديد) ب (إسرائيل)، التي باتت من كثرة وطول استخدامها مدعاة للسخرية والتندر بها في الشارع العربي قبل الشارع الإسرائيلي، مضافاً إليها (التهديد) بالذهاب إلى (مجلس الأمن) المحرَّم عليه أمريكياً إصدار أي قرار بإدانة إسرائيل أو شجب أعمالها.. فضلاً عن عقابها على كل الجرائم التي ترتكبها صباح مساء، أو الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي لا يُستمع إلى قراراتها أو (محكمة العدل الدولية) التي لا تعير إسرائيل أحكامها أي قدر من الاحترام فضلاً عن الامتثال لها، إلا أنه يحمد له التشديد على أنه لا مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل إلا بعد إيقاف الاستيطان في أراضي الضفة عموماً والقدس الشرقية خصوصاً، وقد زاد أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى.. الأمر إيضاحاً في مؤتمره الصحفي في ختام القمة.. عندما قال: (لقد طفح بنا الكيل، ولا يمكن أن نجد سياسة أو دولة تقبل الاستمرار في هذا الوضع. المسألة الآن لم تصبح مسألة تفاوض، وإذا كان هناك استعداد من جانب الطرف الإسرائيلي للتفاوض، فعليه أن يظهر أنه جاد.. وعليه أن يوقف الاستيطان)..؟!
على أن المؤتمر في مداولاته وبيانه الختامي.. لم يخل من (أمرين) جديدين مثيرين لافتين وعلى نحو لم تشهد مثلهما القمم السابقة، كان أولهما: اقتراح الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ب (تحويل) الجامعة العربية.. إلى (اتحاد عربي) على غرار الاتحاد الأوروبي، وهو اقتراح طموح براق يتلاقى مع طموحات رئيس القمة العقيد معمر القذافي الوحدوية وأحلامه.. إلا أنه أكبر بكثير من قدرات الوطن العربي وإمكاناته الهزيلة!!
وكان (ثانيهما).. الذي تقدم به الأمين العام للجامعة العربية في اللحظات الأخيرة من القمة كما قيل.. وإن تضمنه بيانها الختامي، هو إقامة (رابطة للجوار العربي) في كل من آسيا وإفريقيا.. بادئة بدعوة الجمهورية التركية وجمهورية تشاد للانضمام إليها (رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان.. كان حاضراً ومرحباً بالدعوة قبل إرسالها)، فمثنية ب (إيران).. وهو اقتراح أكثر أهمية وقيمة وموضوعية.. من سابقه، فهو إلى جانب مساعدته على إطفاء نار (المذهبية) المشتعلة دون مبرر مع إيران، التي بات ينفخ فيها كل من هب ودب، والمسيحيون واليهود في مقدمتهم.. بأكثر مما يفعل السلفيون الصارمون أنفسهم - خاصة إذا أعلنت (إيران) عن استعدادها للانسحاب من الجزر الإماراتية الثلاث، وأمكن الاتفاق بينها وبين الإمارات برعاية (الجامعة) على وضع ترتيبات أمنية مشتركة بينهما للحفاظ على أمن الجزر وسلامتها من العدوان عليها أو (اغتصابها) أو سوء استخدامها - سيعمل عند التحضير له وقبل قيامه على أرض الواقع.. على توجيه رسائل ذات مغزى لأكثر من جهة، لعل أولها: أن العرب (هؤلاء!) الذين آمنوا ب (السلام)، وجعلوه استراتيجية لهم، ثم أتبعوه ب (مبادرة سلام) قبل ثماني سنوات.. لو قدمت لأب الزعامات الإسرائيلية الروحي (بن جوريون) لخرَّ على الأرض ساجداً حمداً لله، فلم تُقبل لا من (شارون) ولا من (أولمرت) فضلاً عن (نتنياهو).. وكان مصيرها في أروقة المكتب البيضاوي في واشنطن لا يختلف عن مصيرها في أروقة الكنيست في تل أبيب.. لم يعودوا (وحدهم) في مواجهة الغطرسة ومنطق القوة الإسرائيليين..!!
لقد كان عمرو موسى.. سياسياً بارعاً فذاً في اقتراحه هذا، الذي أخشى عليه من الموت - بأي نوع من السكتات السياسية - عند لقاء المجلس الوزاري العربي في سبتمبر القادم لدراسته، وبحث آلية تنفيذه.. بالتشاور مع لجنة الرؤساء الثلاثة ل (ليبيا واليمن وقطر).
إن (مشكلة) أمين عام الجامعة.. العروبي روحاً ودماً وفكراً.. في هذا الاجتماع وغيره، هي أن المجتمعين في خيمة سرت.. كانوا يحضرون ب (أجسادهم)، أما عقولهم وقلوبهم.. فقد كانت تطير وتسبح في أفلاك أخرى بعيدة كل البعد عن (سرت).. وعن (ليبيا) نفسها..!!
على أن (القمة) التي وُصفت أثناء التحضير لانعقادها، بأنها ستكون (قمة دعم صمود القدس).. فلم تفز (القدس) منها إلا بقراري: الامتناع عن التفاوض ما لم يتم إيقاف الاستيطان، وإمداد بنيتها وصمود سكانها بمبلغ خمسمائة مليون دولار.. يخشى عليه - على الرغم من تواضعه - من عدم وصوله، أو ضياعه في الطريق إليها.. فقد حفلت عبر مداولاتها وبيانها الختامي.. بقدر لا بأس به من الطرائف البيضاء والسوداء (ومعذرة إن لم أسمِ الأشياء بأسمائها)، حيث جاءت أولاها بصورة عفوية أو مقصودة.. على لسان الرئيس السوري بشار الأسد عندما سئل صحفياً: إن كان في نيته التوجه إلى (مصر) لزيارتها..؟
فأجاب: (إذا أرادوا «أي المصريون»)..!! بينما قال وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط تعقيباً عليه ب ( إن مصر ترحب.. إذا رغب في ذلك)..! لتصور بعض الصحف العربية ما حدث.. قائلة: إن (القمة) شهدت تقارباً مصرياً - سورياً..!!
إلا أن أبرز تلك الطرائف.. كان في (اختيار) القمة الرئيس العراقي جلال طالباني: (الغائب) عنها و(الحاضر) بقوة وحيوية - يحسد عليهما - في احتفالات عيد النيروز ب (طهران).. ليكون العضو الخامس في لجنة دراسة الاقتراح اليمني ب (تحويل) الجامعة العربية إلى (اتحاد عربي)..!!
أما طرائف البيان (الأخرى!!).. فقد تمثلت في أمرين شديدي البراءة والتهذيب، الأول: عندما استبعد البند الثاني منه الإشارة ولو تلميحاً إلى معبر رفح العربي المغلق!! وهو يطالب بلهجة صارمة جادة ب (رفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة بشكل فوري).. مناشداً (المجتمع الدولي وعلى رأسه مجلس الأمن لاتخاذ موقف واضح من هذا الحصار الظالم واللا إنساني)..!!
والثاني: عندما تعاطف البيان مشكوراً في بنده (الحادي عشر).. مع مواطني الدول العربية الثماني الذين يتعرضون إلى أقسى إجراءات التفتيش البدني (من طرف بعض الدول الغربية) عند قدومهم إلى مطاراتها دون أن يشير إلى (اسمها) الذي يعرفه الحادي والمنادي.. كما يقولون، بل و(بوابو) العمارات وسائقو الشاحنات.. أيضاً، مؤكداً أن (القمة) ستطالب ب (إلغائها) حفاظاً على المصالح المشتركة، ودون أن يشير ثانية.. حتى إلى حق هذه الدول في المعاملة ب (المثل) وفقاً للأعراف الديبلوماسية إن استمرت في إجرائها (التمييزي) هذا..!! فليس هناك دولياً وإنسانياً: جنسيات (بريمو).. وأخرى (ترسو)..!! (الجزائر - إحدى الدول الثماني - أخذت تعامل مواطني الولايات المتحدة ب (المثل) في مطاراتها.. قبل القمة.. وقبل بيانها الختامي).
ما أكثر القمم..!!
وما أكثر الأحزان العربية.. قبلها وبعدها، وليست (قمة سرت) العربية استثناءً.. منها، ولعل الصورة الفوتوغرافية الرائعة.. التي استطاع التقاطها مصور وكالة الأنباء الفرنسية ل (عمرو موسى).. وكفاه متعانقان - على الطريقة الهندية -، وقد وضعهما أمام جبهته وأنفه.. تحت قبة رأسه المجللة ب (البياض)، تقدم أسطع دليل على (الحيرة) التي نحن فيها.. و(الحزن) الذي يغمر قلوبنا من قمة إلى قمة..!!