لم تعرف بلادنا التمويل - الذي هو دم الاقتصاد الحديث ومحرك نموه - لعقود خلت بسبب فتاوى اشتهرت بين الناس في غفلة من الفقه والفقهاء. منطق هذه الفتاوى مبدأ الاحتياط وحجتها كبت المخالف. هذه الفتاوى المخالفة لفقه السلف والمعارضة لمنطق الخلف تسببت في تضييق الوعاء الزكوي وبندرة التمويلات وارتفاع كلفتها. فتركزت الأموال في يد قلة من الأثرياء تدور الأموال والأملاك بينهم، فظهرت في مجتمعنا الطبقية المقيتة. وفُتحت نافذة التمويل للمواطنين منذ سنوات قليلة ولكنها قُيّدت بقيد يزعمون بأنه ابتكارات لمنتجات صيرفة إسلامية. فتركزت التمويلات على الاستهلاك والمقامرات. واستُغل جهل الناس ومباركة الهيئات الشرعية في رفع أسعار الفائدة على هذه التمويلات أضعافاً مضاعفة، ولا ضير فالختم شرعي والذبح على الطريقة الإسلامية.
في بلادنا قلة من المواطنين من يمتلك منزلاً قبل أن تشيب ناصيته وعارضيه. وأصل هذه المشكلة وأساسها هو انعدام التمويل وارتفاع كلفته لا غلاء الأراضي، وإن كانت أسعار الأراضي هي السبب الثاني بعد صعوبة التمويل في وجود هذه المشكلة. وشاهدي في ذلك أننا لسنا بدعاً بين الأمم في غلاء المنازل. فكل الدول تعاني من مشكلة ارتفاع أسعار العقارات. فإن لم يكن بسبب قلة الأراضي أو غلائها فبسبب غلاء اليد العاملة أو ارتفاع الضرائب أو عدم توفر البنية التحتية في الدول الفقيرة أو غير ذلك من الأسباب. وشاهدي هنا هو أن جميع الدول المتطورة المتقدمة والغنية قد تغلبت على مشكلة الإسكان وارتفاع أسعاره بتسهيل التمويل السكني وتخفيض كلفته. فالتمويل العقاري المنخفض التكلفة للمنازل - أي أن أسعار فائدته منخفضة - هو الحل الشامل الأقل كلفة على الدولة وعلى المجتمع والقادر على حل معظم مشاكل نُدرة تملك المواطنين للمنازل.
وجاء البشير بنظام الرهن العقاري، فما زُفت بشرى قدومه حتى أُجهضت بخبر شرط كونه مطابقاً لمنتجات ما يُسمى بالصيرفة الإسلامية -كما أوردت الخبر قناة العربية -. هذا الشرط يحمل في لوازمه وأد الغاية العظمى وضياع الهدف الإستراتيجي من الرهن العقاري. فهدف نظام الرهن العقاري يتمحور حول توفير التمويلات السكنية بتكلفة منخفضة. ولكن بهذا القيد الظالم - قيد صيرفة الحيل - لن يصبح من الممكن بيع الرهون في السوق الثانوية ولن يمكن ضمان التمويلات ولا دعم أسعار الفائدة على الفئة المحتاجة من المواطنين مما سينتج عنه رفع أسعار الفائدة مما يؤدي إلى مضاعفة كلفة التمويل إلى الضعف وزيادة على التمويلات المنزلية - وسمها ما شئت -، إجارة أو مرابحة أو سذاجة. وستعود أزمة الإسكان في بلادنا إلى الدوران في الحلقة المفرغة.
يا ليت حكماء قومي يستدركون النظام ولا يقيّدونه بصيرفة الحيل. فمن دون هذا القيد يمكن تصميم البرامج الداعمة لتخفيض كلفة التمويلات المنزلية بغض النظر عن ختم الهيئات الشرعية، وليترك الخيار للمواطن. فمن أراد أن يدفع فوائد قيمتها مليوناً ونصف المليون، على تمويل منزلي بقيمة مليون ريال لمدة ثلاثين عاماً من أجل مصادقة الهيئات الشرعية فهو بالخيار ومن أراد تخفيض قيمة الفوائد إلى النصف مقابل التخلي عن مصادقة الهيئات الشرعية فهو أيضاً بالخيار. وعند وجود الخيار سينكشف الغطاء عن أعين الناس وتزول الممانعة وسيتقبلون النقاش فيتبيّن لهم حقيقة الفتوى التي سُكت عنها لأربعين عاماً.