الجنادرية - عبدالله الباتلي - هبة اليوسف
كعادتهم كل عام، يدور الآلاف من الزوار في فلك مهرجان الجنادرية مستعيدين عبق الماضي لأنفسهم، ومعرفين بجمال تاريخ الجزيرة لمن أتى بعدهم من الأجيال الجديدة، ومن خلال تنقلنا بين جنبات هذا المهرجان العظيم لفت انتباهنا مشهدان دون غيرهما؛ أحدهما لشيخ هرم وقف أمام بعض المحال القديمة في منطقة القصيم وعيناه تحمل مزيجاً من بهجة الذكريات وألم ابتعادها سرعان ما عبر عنه بعبرة غافلته وحاول هو مداراتها، والمشهد الآخر لعجوز وقفت أمام رجل يخبز في تنوره وسط السوق الشعبي، لتسترجع جمال أيام خلت، كانت أسرتها وقتئذ تجتمع على أقراصها؛ التي تعجنها بحنانها المتدفق وتخبزها بحبها الجارف، وما بين هذا المشهد وسابقه كان هناك مشهد غريب يلوح في الأفق، وأخذ كل زائر يحدث نفسه وهو يقترب رويداً رويداً عن ماهية ذلك المجسم المألوف الذي يعتلي تلك البناية الرائعة في منتصف المهرجان، وما هي إلا خطوات حتى علمت ماهيته بمجرد النظر إلى العلم المرفرف إلى جانبه، وتعالت الأصوات (إنه برج إيفل)، وكانت أطراف ذلك العلم تتراقص مع نسمات الهواء ولسان حالها يقول لزوار جناح جمهورية فرنسا (Bonjour) وتعني بلغة الضاد (مرحباً).
فرنسا.. عالم من خيال
بمجرد مرورك بجناح دولة فرنسا - ضيف شرف مهرجان الجنادرية - من الخارج، ستلحظ أكثر من شيء يسترعي انتباهك التام؛ فقد زينت واجهة الجناح بصورة عملاقة رائعة جمعت ملك الإنسانية عبدالله بن عبدالعزيز بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ومع دورانك حول الجناح ستجد على جدرانه الخارجية مجموعة من الصور الرائعة التي تصف أكثر مدن فرنسا إثارة للاهتمام للتعريف بها ونمط السياحة فيها، كل هذا ونحن لم ندخل للجناح بعد.
والحقيقة أن جناح فرنسا وبشهادة القائمين عليه لم يكن للحظة واحدة فارغاً من الزوار، فقد كان زواره أفواجاً لا تكاد تنتهي، ولا غرو فما يحمله الجناح من فعاليات جديدة تماماً على الزوار كانت محل استحسان الجميع بجميع أجناسهم وفئاتهم العمرية.
بين القربة والأكورديون
عندما تدلف إلى جناح فرنسا - التي لا يُعرف بعد هل هي بلاد الجمال أم الحب أم العطور أم بلاد الجن والملائكة كما اشتهر عنها - ستحتار عيناك بين اللوحات المرسومة على جدران الجناح من جهة وما بين المتاجر المصغرة التي تعرض تاريخ فرنسا باختصار غير مخلّ، وفرقة العروض الرائعة التي تجبرك على الوقوف مشدوهاً ومصفقاً دون إدراك. وخلال هذه الأسطر اليسيرة سنأخذكم في رحلة قصيرة ساحرة بين جنبات الجناح الفرنسي بداية من متجر الملابس الذي يفاجئك بأزياء الفرنسيين والفرنسيات القديمة عبر العصور، قبل أن يفاجئك كشك صغير يظهر فيه رجلان تملؤ الابتسامة وجهيهما وهما يرحبان بمن يريد أن يتم رسمه من قبل أحدهما بألوان الفحم، حتى تصل للساحة الرئيسية في الجناح التي تم تصميمها لتكون مشابهة لإحدى زوايا شارع الشانزليزيه ومقابلها صورة هولوجرامية لأحد شوارع باريس بإضاءة شديدة تشعرك أنك في وسط الشارع حقيقة، وعند تلك الزاوية المضيئة تصطف فرق العرض الموسيقية المرافقة للعروض البهلوانية التي اشتهر بها الكوميديون الفرنسيون، وأبدع العازفون على آلة القربة أو ال(Bagpipes) وآلة الأكورديون (Accordéon) التي اختلف الكثير من الحضور حول تفضيل أي منها على الأخرى، وقد التقينا أحد العارضين ويدعى مارتين وسألناه عن تفاعل الحضور مع عروض الجناح البهلوانية فأكد أن الحضور كثيف ومميز ويبعث الحماس من خلال التصفيق الحار والإعجاب الواضح في العيون والرغبة في التصوير مع العارضين بعد نهاية وصلاتهم.
ثم تبدأ الرحلة التاريخية في الانقضاء لتبدأ فرنسا الحديثة في إبراز جمالها للزوار بعرض نماذج للتقنية القادمة من هناك؛ فيبدأ العارضون بالتحدث عن القطارات والسيارات والمشاركات الفضائية لفرنسا وتقدمها التقني من خلال زوايا مرتبة ومدعمة بمجسمات تصف الحال، لينتهي بك المطاف في سوق بسيط شعبي يعرض من خلاله أنواع الخبز الفرنسي الشهير بأحجامه المختلفة، قبل أن تحيط بك الصور النادرة للمواقع التاريخية الفرنسية وكأنها تقول لمن اقترب من باب الخروج بكل شوق: لا نقول وداعاً ولكن إلى لقاء قريب.
طالبات الفرنسية مترجمات
بينما كانت أفواج العائلات تقتحم الجناح الفرنسي لفت انتباهنا وجود شابات متطوعات كانت مهمتهن التنسيق بين الحضور وممثلي الجناح، وعندما تحدثنا إليهن تبين أنهن طالبات قسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود اللاتي تحدثن ل(الجزيرة) عن تجربتهن كمترجمات في الجناح الفرنسي في الجنادرية وأجمعن من خلال حديثهن على شكر منسقة القسم الفرنسي بالجامعة أ.غادة محجوب التي ساعدتهن على تطبيق الترجمة من خلال المشاركة في الجناح.
وكانت بداية الحديث مع أشواق السليمي طالبة المستوى سابع قائلة: تجربتي في الترجمة في الجناح الفرنسي جدا رائعة؛ فمن خلاله مارست الترجمة بشكل حي وطبقت اللغة مع أصحابها، ولكم كانت سعادتي وأنا مضطرة للحديث باللغة الفرنسية طوال الوقت فأنا لأول مرة أمارس الترجمة بشكل تطبيقي، والفرنسيين شعب رائع فكنت أحيانا أخطئ في بعض العبارات كوني أمارس الترجمة لأول مرة وكانوا يتقبلون ويحاولون مساعدتنا في نطقها بشكل صحيح، وقد أضافت هذه التجربة لي الكثير وأنا سعيدة بهذه المشاركة.
فيما قالت غادة النزهة - وهي طالبة في المستوى السابع أيضاً -: إنه شعور رائع فأنا لأول مرة أمارس الترجمة مباشرة، وكلمة حق تقال إن الفرنسيين كانوا يتعاملون معنا برقي وتهذيب، فهم يشجعوننا ويساعدوننا في نطق بعض المصطلحات وهم شعب لا تغادر الابتسامة محياهم مما يبث فيك الشعور بالسعادة وأنت تتعامل معهم.
فيما ذكرت نجلاء الصهيل - طالبة في المستوى عاشر -: هذه ثاني تجربة بالنسبة لي؛ فقد سبق وترجمت في جناح الجامعات الفرنسية بالمؤتمر العلمي للدراسات العليا، وحينها كنا جنبا إلى جنب مع الجامعات الفرنسية نوصل المعلومات للطلبة والطالبات السعوديين ونترجم لهم، وقد كانت تجربة رائعة ومميزة أما بالنسبة لهذه التجربة مع الجناح الفرنسي في الجنادرية وبالرغم من أن الزوار مختلفون تماما عن زوار المؤتمر العلمي إلا أنها أسعدتني كثيرا، فالترجمة الميدانية فرصة يستحيل أن نضيعها فهي غير متوفرة لنا دائما، أما عن الفرنسيين فقد كانوا مرحبين بالفكرة والكثير منهم هذه هي زيارته الأولى للمملكة وكانت مفاجئة تماماً؛ فالمطبوع في أذهانهم أن المملكة عبارة عن صحراء وبترول وإسلام أما بعد زيارتهم لها فالموضوع اختلف حيث رأوا جانبا كبيرا من التطور والرقي في الميادين كافة وهم يحاولون جاهدين إيصال تراثهم وثقافتهم للشعب السعودي من خلال ما يقدمونه في الجناح، وقد شجعونا بإعجابهم بنطقنا الصحيح للغة الفرنسية.
نينا: السعوديات لطيفات
ومن خلال جولة أخرى في الجناح الفرنسي ضمن أيام العائلات التقينا بالرسامة الفرنسية نينا التي كانت ترسم الزوار السعوديين في الجناح بكل نشاط، حيث عبرت عن سعادتها بتواجدها بالمملكة، ووقالت: لقد طورت موهبتي في الرسم أكثر من خلال وجودي في الجنادرية ورسم الملامح السعودية التي تختلف تماماً عن الملامح المنتشرة في فرنسا، ولذلك كانت بمثابة دروس جديدة تلقيتها لرسم ملامح جديدة، فأنا أتدرب وكل يوم أتقن شيئاً منها، كما أني أحببت الزائرات فهن لطيفات جدا، وذكرت بأنها تتمنى زيارة المملكة مرة أخرى للتعرف عليها بشكل أكثر مستقبلاً.
سعودية تشرف على اللوفر
أما في الزاوية المصممة لتكون جزءاً من اللوفر فقد رأينا مشهداً مشرفاً تمثل في وجود فتاة من بناتنا مشرفة عليه ومهمتها تعريف الزوار باللوح المعروضة، وقد تحدثت المبدعة رشا المديهيم ل(الجزيرة) قائلة: عملي في ركن متحف اللوفر فأنا أقدم شرحاً عن اللوح المعروضة والأشخاص الذين رسموا فيها وأقوم بتعريف زوار المعرض على أسمائهم ومناصبهم والأماكن التي رسمت فيها اللوح، ومن خلال هذه التجربة تعرفت على الثقافة الفرنسية وفهمتها كي أوصلها للزوار السعوديين الذين وجدت لديهم شغف المعرفة وحب الاطلاع على الثقافات المختلفة وخصوصا الثقافة الفرنسية فلها سحر خاص لجذب عدد كبير من الزوار فهم يسألون عن تفاصيل كثيرة وذلك محاولة لإشباع تعطشهم لمعرفة الواقع الفرنسي.