تُعتبر الميزانية وإدارتها من أهم الأدوات التي تستعملها المنظمات، والمؤسسات لتنظيم عملياتها المالية المختلفة، وإدارتها بكفاءة وفاعلية بالشكل الذي يضمن للمنظمة تحقيق أهدافها ومواجهة التحديات والأزمات الاقتصادية، كالكساد أو التضخم، وأيضاً يضمن تحقيق التطور والتوازن الاقتصادي والمساعدة على الصمود والمنافسة في عصر يموج بالمتغيرات والتقلبات.
شعر الجميع بأهمية الميزانية وإداراتها منذ القدم، فمروراً بعهد يوسف عليه السلام إلى الدولة الإسلامية إلى الدول اللاحقة، ولكن لم تُعرف الميزانية بمفهومها المعاصر والحديث إلا في الثلاثينيات من القرن الثامن عشر في بريطانيا، عندما طبقت فكرة إعداد ميزانية للسنة المقبلة بعد اعتماد إيراداتها ونفقاتها المتوقعة من البرلمان، وانتقلت الفكرة إلى فرنسا، وروسيا، ومصر، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية التي طبقتها في القرن العشرين وإلى الدول الأخرى.
ومرت تلك الفكرة والتجربة بمراحل تشخيصية وتطويرية، فمن الأسلوب التقليدي، أو ما يُسمى بأسلوب موازنة البنود أو الأبواب أو الفقرات، والتي تُعد فيها الموازنة وفق البنود أو الإدارات أو المناطق الجغرافية، بحثاً عن الكفاءة والفاعلية وتحقيق العدالة والمحافظة على الأموال من التبذير والإسراف، ومع مرور الوقت تُكتشف عوامل أخرى مهمة، فتؤخذ في الحسبان عند توزيع المبالغ، وبعد تطبيقها ومرور الوقت خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وجدوا أن توزيع المبالغ وفق موازنة البنود يخضع لعوامل أخرى لم تكن في الحسبان، كشخصية المسئول المالي، وشخصية طالب المبالغ والاعتمادات ومدى العلاقات الرسمية، وغير الرسمية بينهم، فأصبح قوي الشخصية وصاحب النفوذ يحصل على أعلى المخصصات، وغيره لا يحصل إلا على القليل، وهذا لا يحقق الرشد والعقلانية والعدالة في التوزيع، فالمفاوضات والسياسة تلعب الدور الأكبر هنا، بالإضافة إلى ما ينتج عنها من إسراف وتبذير بالرغم مما تحققه موازنة البنود من رقابة شديدة على الأرقام وتوزيعها وفق البنود بغض النظر عن الأهداف المتحققة، فهذا الأسلوب وما فيه من عيوب لم يعجب الكثير، هدر للأموال بدون نتائج ومشاريع ملموسة، فاستمرت مسيرة الإصلاح والتطوير، فخرج تقرير «هوفر» في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، وطالبت بتطبيق موازنة الأداء كحل لعيوب الإسراف والتبذير، والتركيز على الأداء والنتائج، والتي من خلالها تحدد الأهداف والمشاريع التي من أجلها تطلب المبالغ، وتحدد تكاليف تلك الأهداف، فأصبح أسلوب موازنة الأداء هو المطبق في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول كالسويد والفلبين وفنزويلا.
ومع التطبيق ومرور الوقت برزت بعض العيوب، فالأداء والمشاريع لا تقابل المبالغ المخصصة، المبالغ كبيرة والأداء لا يقارن بتلك المبالغ، فتعالت الأصوات تطالب بالترشيد وحفظ الأموال، فعكفت دور الاستشارات والمفكرين أمثال «ألن تشيك» و»ارون ولدفسكي» على معالجة تلك العيوب، ومع استمرار الدراسات الاستشارية والتطوير برزت موازنة التخطيط والبرمجة، وأصبحت الموازنة ليست عملية محاسبية، بل هي عملية تخطيط ورقابة وتحكم، فتحدد المشاريع والأهداف وتحدد البدائل لتحقيق تلك الأهداف، وبعد تقييم تلك البدائل وتقدير التكلفة لها، تعقد الجلسة الختامية لإقرار الموازنة من خلال مناقشتها بشكل جماعي، وربط تلك البدائل بالسياسة العامة للمنظمة، والتي على ضوئها يتم تحديد الأولويات واختيار البدائل وتحدد الموازنة.
فلم تقف عجلة التقدم والتطوير والبحث عن الطرق والأساليب التي تضمن تحقيق الأهداف المنشودة، فخرجت الموازنة الصفرية، والتي تهدف للبدء من الصفر وعدم الاعتماد على الموازنات السابقة، فتحدد الأهداف والمشاريع الجديدة، وعلى ضوئها تحدد المبالغ والمخصصات.. وما زال العمل مستمراً بحثاً عن أقصى درجات الكفاءة والفاعلية لإدارة الأموال التي هي عصب الحياة، وحفظها من الهدر والضياع.
فالميزانية بمفهومها الجديد بدأت منذ 1733م، وتبعتها مراحل تطويرية جبارة بحثاً وحرصاً على تحقيق أعلى درجات الكفاءة والفاعلية، وحفظ الأموال من الضياع، فخرجت موازنة الأداء، ثم موازنة التخطيط والبرمجة، وأخيراً الموازنة الصفرية.. في الوقت الذي ما زالت الكثير من شركاتنا تطبق الموازنة التقليدية، موازنة القرن الثامن عشر، موازنة البنود والأبواب والفقرات، بما فيها من عيوب الإسراف والتبذير وهدر الأموال، وعدم تحقيق النتائج، فلا غرابة عندما نسمع مبالغ كبيرة وضخمة، ولا نرى مشاريع وأهدافاً ملموسة..... قد يكون من الصعب تطبيق الأساليب الحديثة في الموازنة والتخلي دفعة واحدة عن الأسلوب التقليدي، ولكن ليس من الصعب الانتقال تدريجياً وتعديل العيوب سنوياً لتحقيق أعلى درجات الكفاءة والفاعلية التي هي مطلب الجميع.
alaidda@hotmail.com