كنا ثلة من الإذاعيين والصحفيين «نتعيش» في برامجنا على هذا الموسم الثقافي السنوي الغني، فالتقينا وجهاً لوجه بأدباء ومفكرين ومثقفين عرباً ما كنا نحلم أن يضمنا بهم مجلس.. أو يجمعنا بهم حوار لو لا أفضال هذا المهرجان،
كانت أروقة الفنادق التي تستضيف المدعوين تعج بالمحاورات الإذاعية من محاورين أكفاء، مثل الأستاذ: إبراهيم الذهبي -رحمه الله-، والزميل المرحوم خالد البنيان، والأساتذة:
عبد الملك عبد الرحيم وناصر الفركز وحسن التركي ومحمد العوض وغيرهم، بل بلغ الحرص على انتهاز فرصة المهرجان إلى أن تحجز الإذاعة غرفة خاصة تكون بمثابة أستديو مصغر للتسجيل، وكذلك فعل التلفزيون، وقد أسعدني الحظ من خلال هذا المهرجان بالالتقاء بنخب مميزة من المثقفين العرب في برامج إذاعية عديدة كنت أنتجها للإذاعة خلال السنوات السابقة منذ بدء المهرجان الوطني وإلى عام 1424هـ السنة التي انتقل فيها عملي إلى التلفزيون مثل: ضيف الليلة.. وبين ذوقين.. وبعد الإفطار وغيرها، وقد نشطت جهات ثقافية أخرى لكسب استضافة أكبر عدد من الضيوف، فعمدت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة إلى حجز جناح خاص لاستضافة البارزين في برنامج «مراجعات ثقافية» الذي بث على شاشة القناة الأولى على مدى خمس سنوات من عام 1321هـ إلى عام 1426هـ، وأجريت فيه لقاءات معمقة مع أكثر من مائة وسبعين ضيفاً وعلماً بارزاً كان كثيرون منهم من ضيوف هذا المهرجان الثري.
لم نكن ندري، أو ربما كنا في حالة أشبه ما تكون بالانبهار.. ونحن نلتقي بفعل كرم وسخاء هذا المحفل الكبير أعلاماً بارزة في الأدب والفكر، بل نجوماً كباراً من كل الأقطار العربية في مرحلة يمر بها المثقف السعودي كالغريب أو النكرة في كثير من أقطار الوطن العربي مطلع عام 1405هـ.. فتبدأ عملية نفسية معقدة بين الطرفين للأخذ والعطاء أيضاً، عملية نفسية معقدة بالفعل، فكثيرون من مثقفي العرب يجهلون الأدب السعودي.. ولا يدرون إلا عن النزر القليل عن الكتاب السعودي، وما زالت - آنذاك - نظرة هيمنة ثقافة المركز على الأطراف سائدة مستبدة، ومن المشقة على النفس الأبية لدى أدبائنا الذين ظلمهم الظرف الزمني وتقلبات الأدوار السياسية في المنطقة التعريف بأنفسهم لإخوانهم العرب لأول مرة - في أغلب الحالات عند كثيرين منهم - ولكن أروقة الفنادق والصالات وقاعات المحاضرات والندوات وتبادل الكتب.. كل ذلك كان كفيلاً خلال سنوات يسيرة من عمر المهرجان الوطني باختصار الطريق الطويل وتكوين وشائج صلة وتواصل واقتراب فكري بين مثقفينا ومثقفي العالم العربي، كما تقلصت الفجوة، وأزيلت الرؤية الضبابية والفكرة الخاطئة الموهومة عن بلاد البدو والصحراء والقطيعة وهيمنة المحافظة.
وكانت دعوة من يحمل هذه الأفكار مثار استغراب وتعجُّب من بعض المتابعين، فكيف تُدعى شخصيات كانت لها مواقف فكرية سلبية سابقة وحادة من بلادنا، مثل: يوسف إدريس وأنيس منصور ولطفي الخولي ومحمود أمين العالم والطيب تيزيني وغيرهم؟!.. الحق أن مواجهة الحقيقة أقوى من السماع بها، فمجيء هؤلاء وأمثالهم ورؤيتهم للمشهد الوطني السعودي بتفاصيله ودخولهم في حوار متصل مع النخب السعودية كان أقوى طريق للوصول إلى الحقيقة.
كان الشغف يستبد بنا كإذاعيين للالتقاء بأكبر عدد من المفكرين والأدباء، إما في غرفهم أو قاعات بهو الفندق، ولك أن تلقي نظرة خاطفة في السنوات الطويلة التي خلت من عمر المهرجان.. فلا تجد زاوية أو طرفاً نائياً من البهو الرئيس في الفندق أو غرفة.. إلا ويتم فيها إجراء حديث أو تواصل أو تبادل كتب أو حلقة نقاش ساخنة قد تتصاعد وتسخن وتكبر دوائرها ويزداد المشاركون فيها إلى الهزيع الأخير من الليل!.
لقد قرَّب المهرجان الوطني بذكاء وحكمة وحنكة بين المتباعدين، المثقفين العرب والثقافة السعودية!.
ما عجز عن إدراك كثير منه الإعلام السعودي الرسمي وهو: التعريف بالثقافة السعودية وبالأدب والأدباء والتراث، نتيجة الضعف المزمن وسوء الإدارة وغياب التخطيط، وما لم تدركه الإدارة الثقافية في مرحلتها الأولى إبان رعاية الشباب، استطاع أن يحققه هذا المهرجان المتنامي المتصاعد في خططه وإضافاته سنة بعد أخرى على مدى ربع قرن بسلاسة ورقي حضاري وحسن تدبير ودقة تخطيط.
لقد كانت الكتب السعودية تصل مباشرة إلى المثقف العربي، فاختصر حضوره غياب سنين طويلة من الفقد والتهميش، وكان اللقاء المباشر خير وسيلة لإلغاء سنين طويلة من الاتهام والاستنقاص وعدم التقدير.
كانت الفنادق والقاعات والمحافل والندوات تضج بحضور أعلام بارزين اختصر المهرجان عليهم المسافات المتنائية.. وأزال الحجب الوهمية المصطنعة.. فكنت ترى هنا أو هناك في هذه القاعة أو تلك ومع هذا من أبناء البلاد أو ذاك الطيب صالح أو محمد الفيتوري أو عبد الوهاب البياتي أو أحمد الشيباني أو يوسف إدريس أو عبد الله الطيب أو محمد عمارة أو العروسي المطوي أو عبد الله أبو هيف أو هاشم صالح أو محمد أركون أو محمد جابر الأنصاري أو أنيس منصور أو خالد القشطيني أو محمد الهاشمي أو بلند الحيدري أو زكريا تامر أو محمد يوسف نجم أو محمد إبراهيم أبو سنة أو علي جواد الطاهر أو محمد صالح الشنطي أو فاروق شوشة أو فاروق جويدة أو محيي الدين اللاذقاني أو محمود السعدني أو جمال الغيطاني أو مصطفى محمود أو مطاع صفدي، وغيرهم.
وفي المقابل يمكن لك أن ترى خلال السنوات التي عمر بها المهرجان فضاء المعرفة السعودية في مقابل أولئك المثقفين العرب نفراً ممتازاً مختاراً من المثقفين السعوديين يحاورون ويناقشون ويتواصلون ويجسرون الهوة، من مثل: عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري وحمد الجاسر وعبد الله بن خميس وعزيز ضياء وعبد الكريم الجهيمان وعبد الله بن إدريس وعبد العزيز الرفاعي وأبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري وحسن القرشي وحجاب الحازمي ومحمد بن سعد بن حسين وسعد البواردي وفهد العرابي الحارثي وعبد الله الغذامي وسعد البازعي وحسن الهويمل وحمد القاضي وعبد الله العثيمين وسعد الصويان ومعجب الزهراني وعبد المقصود خوجة وعبد الله شباط ومنصور الحازمي وعزت خطاب وعبد الفتاح أبو مدين ومحمد المريسي الحارثي وعبد الرحمن العبيد وسلطان القحطاني وخليل بن عبد الله الخليل وأحمد سالم باعطب وعبده خال وعبد الله الصيخان ومحمد جبر الحربي وخليل الفزيع وعبد الله المعطاني وعبد الرحمن المعمر وغيرهم.
وإذا كان من آمال يمكن أن ننتظرها من راعي النهضة ومؤسس الدولة السعودية الحديثة الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. ونحن نحتفل باليوبيل الفضي على انطلاقة هذا المهرجان الحضاري، فإن المثقفين من أبناء هذه البلاد يتطلعون إلى تحقيق مطلب واحد ربما حان وقت الإلحاح عليه ويمكن إيجازه باختصار شديد في هذه الكلمات الموجهة إلى سيدي خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-:
لقد عوّض المهرجان الوطني للتراث والثقافة النقص الحاد في عدم وجود جهاز ثقافي قوي ومنظم قادر على الفعل والتأثير، حيث كانت الاهتمامات موزعة على جهات عدة في الدولة، بين وزارة المعارف حينذاك ووزارة التعليم العالي ووزارة الإعلام والرئاسة العامة لرعاية الشباب، فملأ المهرجان الوطني هذا الفضاء الخالي من خلال جهاز الحرس الوطني..
والسؤال الذي تختلج به وجدانات المثقفين السعوديين:
لقد قام الحرس الوطني مشكوراً بأعباء ثقافية كبيرة.. ومنها هذا المهرجان الوطني منذ أن كان فكرة وليدة إلى أن غدا موسماً احتفائياً وطنياً وعربياً مؤثراً، وكذلك تسهم جهات حكومية أخرى في بعض المناشط الثقافية والإبداعية كالأمانات ووزارة التعليم العالي وغيرها.
ولكن.. إلى متى يمكن أن يظل الجهاز الثقافي الرسمي، وهو الآن ممثل في وكالة الوزارة للشؤون الثقافية والذي يُفترض أن يُناط به الفعل الإبداعي المؤثر كمثل هذا المهرجان وغيره ضعيفاً وغير مؤسس بصورة جيدة وغير كفؤ لإدارة الحركة الثقافية في جوانبها المتعددة: نشراً وتأليفاً وترجمة ومهرجانات ومسرحاً وغناء وفنوناً وتراثاً وتعريفاً وتواصلاً مع الثقافات الأخرى القريبة والبعيدة؟
إلى متى يظل التعريف بنا على مستوى محيطنا العربي.. أو المحيط الأوسع عالمياً فكرياً وأدبياً محدوداً وضئيلاً وقائماً على اجتهاد فردي غير مؤسسي قد يُخطئ ويصيب؟!
إلى متى نترقب هذا المهرجان في موسمه الجميل من كل عام.. بينما نظل طوال السنة نقتات مناشط لا تشفي الغليل ولا تقرِّب بعيداً أو تغيِّر رؤية أو تبني فكرة جديدة مضيئة عنا؟!
أما حان الوقت بعد - يا سيدي - ليرعى كل هذه الهموم جهاز واحد قوي ومدعوم ومخطط له بعناية وبوعي يقظ مدفوع بتحقيق غايات بعيدة تبرز مكنونات هذه الأرض الطيبة بتاريخها العبق وعطائها الفكري والأدبي الممتد مئات السنين ومواهب أبنائها وبناتها، لتتخلق عنا الصورة الحقيقية الإبداعية المتسامحة المنفتحة المحبة الجميلة البعيدة عن تكوينات وأوهام سنين التطرف وما جره من ويلات وأحكام ظالمة وغير حقيقية على مجتمعنا؟!.
إن إنشاء وزارة للثقافة على أعلى مستوى وبأفضل الكوادر وأرقى الأمكنة وأجمل العقول كفيل بأن يحقق عنا الصورة الذهنية الجميلة الحقيقية التي نتوخاها ويتطلع إليها المخلصون والصادقون والمحبون.
في زمن مثل هذا الزمن الاتصالي الصعب الذي تقوم فيه الأحكام على المجتمعات والشعوب من خلال الصورة والكتاب والكلمة والإبداع حان وقت وزارة قوية تحقق رسم الصورة المرتجاة.
سيدي خادم الحرمين الشريفين: لقد بايعك مثقفو هذا الوطن العزيز على المحبة والإخلاص، وعلى الوقوف معك قلباً وقالباً روحاً وجسداً في تصديك لخفافيش الظلام وأعداء الحياة، وعلى السير معك في طريق التحديث والانفتاح والتحضر والاتصال والتواصل مع ثقافات هذا العصر دون استلاب أو تميع في الهوية الذاتية للقيم العربية والإسلامية الأصيلة.
وإذا كانت الجيوش وقت الدفاع عن شرف الوطن تبذل الدماء، فإن العقول النيرة المشرقة والمواهب المبدعة الفذة لا تقل إسهاماً عن الجيوش في إدارة دفة المعركة، فهما معاً في جبهتين متوازيتين: القلم والرمح والسيف والريشة.
فهل نرى قريباً «وزارة الثقافة» المنتظرة تحمل كل هذه الأعباء الجسيمة الثقال؟!.
ksa-7007@hotmail.com